(فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا)
لـمّا نظَّم القرآن الكريم علاقات الأسرة في المجتمع المدني؛ على قواعد ثابتة، وأسس سليمة واضحة، وعلاقات الأسرة في الإسلام لا تقوم إلا على روابط اللحم والدم والنسب، وأما غير ذلك من الروابط كالادعاء والتبني؛ فلا يعتبره الإسلام ولا يقره.
لقد كان من العادات الشائعة في المجتمع الجاهلي عادةُ التبني، وكانت تلك العادة متجذرة في النفوس؛ حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كان قد مارس هذه العادة قبل الإسلام، وتبنى زيدَ بن حارثة رضي الله عنه، أخذه أمام الناس وقال: هذا ابني يرثني وأرثه، وصار زيد يدعى: زيد بن محمد، ولم يكن الإرث هو الأثر الوحيد من آثار هذه العادة، بل لقد كان من ذلك: أن مطلقة المتبنى تحرم على من تبناه حرمة أبدية مُطْلقة، شأن مطَلقة ابنه الذي من صلبه، وغير ذلك من آثار هذه العادة وأحكامها.
ثم لـمَّا حرَّم الله تعالى التبني حين نزل قوله تعالى في سورة الأحزاب: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5] أراد بعد ذلك أن يقضي على آثار التبني وأحكامه بمثال تطبيقي واقعي، ولـمَّا كانت هذه العادة قد تجذرت في النفوس حتى صَعُب على أي واحد من أبناء المجتمع المدني أن يقدم على مخالفة آثارها؛ اختار الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم لذلك، فقدَّر تعالى أن يتزوج زيد بن حارثة بزينب بنت جحش رضي الله عنهم، ثم يقع الخلاف بينهم، ويدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم مصلحًا، فيأمر زيدًا أن يتقي الله، ويمسك عليه زوجته، كما جاءت بذلك الآيات.
ولـمَّا طلق زيدٌ زوجته زينب؛ زوَّج الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، وقضى بذلك على آثار تلك العادة وأحكامها، وصارت زينب تفخر على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول: “زَوَّجَكُنَّ أهَالِيكُنَّ، وزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِن فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ”، قال الله تعالى في ذلك: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37].
إن على المصلحين في مجتمعاتهم أن يقفوا بتأمل على تغيير الإسلام هذه العادة المتعمقة في المجتمع المدني بهذه الطريقة، ويتفكَّروا في سبب اختيار الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم لأن يضرب بنفسه مثالًا تطبيقيَّا عمليًا للقضاء على آثارها دون غيره من المسلمين؛ ليأخذوا من وراء ذلك: أن للإسلام منهج في تغيير العادات وتحريمها، وأن من منهجه في تغيير العادات المتجذرة في النفوس؛ أن يبدأ تغييرها من علية القوم وكبارهم، يضرب أولئك لتغييرها مثالًا عمليًا تطبيقيًا من أنفسهم، ثم يدعى بعد ذلك غيرُهم للتغيير.
ولعلَّ جهل بعض المصلحين بهذا المنهج الإسلامي في تغيير العادات هو الذي يوقعهم في صدامات كبيرة مع مجتمعاتهم، وربَّما جُلَّ الذي يخرجون به بعدها؛ أن يعكروا صفو استساغة المجتمع لمثل تلك العادات المحرمة، دون تغييرها أو تبديلها.
إن من الخطأ في تغيير العادات التعامل معها بمنهج واحد على أنها سواء، إذ لا بد من التفريق بين عادة وعادة، فما كان من العادات متجذرًا، شاملًا أطياف المجتمع كله؛ له منهجه في التغيير، كما سبق بيانه، وما كان من العادات حادثًا، أو قاصرًا على فئة، أو جانب من جوانب المجتمع؛ له منهجه وطريقة تغييره في الإسلام، إذ لا حرج أن يبدأ تغييرها بأي فرد من أفراد المجتمع.
ولقد بدأ الإسلام بتغيير عادة الكلام في الصلاة برجل من عوام الصحابة، اسمه معاوية بن الحكم رضي الله عنه، ولم يكن معاوية بن الحكم بوزن أبي بكر ولا عمر، ولا غيرهم من السابقين الأوليين رضي الله عنهم، ذلك أن عادة الكلام في الصلاة عند الصحابة كانت عادة حادثة طارئة، طروء الصلاة عليهم، لا تُقارن بعادة التبني وآثارها، ولذا صلُح لتغييرها البدء بأي فرد من أفراد المجتمع، ولم يكن دور النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير هذه العادة إلا أن يبين لمعاوية رضي الله عنه حكم الكلام في الصلاة، بقوله له: “إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن”.
وهكذا ينبغي أن يكون منهج المصلحيين في تغيير العادات المحرمة وبيان أحكامه هو النظر إلى طبيعة العادة وتفشيها، ثم العمل بمنهج الإسلام في تغييرها.