Med.boukantar@gmail.com
كأنه لم يتحول منذ ذلك العهد القريب، بل كأنه لا يزال على سيرته القديمة، أي ذلك الواعظ الموسوم من أتباعه بالمشيخة، وهو يومها الخطيب الذي لا يخاف في الله لومة لائم، حتى وإن كان أو صدر اللوم والعتاب من جهات أمنية عليا وقوية، لطالما قصدها بدعاء الويل والثبور دبر خطبه وهي في الصفوف الأولى تتجسس على ثنايا كلامه كما كان يقرر مدمِّجا هذه الدعوى أو الحقيقة خطبه المنبرية، تلك الخطب التي ظل صوته من خلالها يخرق طبلة آذان مريدي مشاهد وطقوس منابره الدعوية بفاس أو خارجها، بل وتحدث شنشنة أفكاره لدى الحواضن الفتية ما يشبه الصعقة الكهربائية…
حتى إن مهاجموه اليوم يهاجمونه نكاية في أمسه بالألفاظ عينها والعبارات نفسها التي وقف ذات يوم يرددها ويرميهم بها في جفاء وغلظة، تحسبه من خلالها وكأنه الفاتح الذي جاء حاملا متأبطا أول مرة مشروع نشر الإسلام بين برابرة المغرب القديم…
حتى إن المرء ليكاد يجزم أن التغيير ما مس وما لحق غير الشكل وتبادل الأدوار وترادفها، وسفر الأحوال قبل الذوات من جهة إلى نقيضها، وهو نفسه أي المرء لا يملك إلا أن يستفسر عن ماهية وطبيعة منطلقات الأمس التي كان يجري بعباراتها وكلماتها وقواعدها لسان الرجل الظاهرة بزعم أو في ما كان يبدو للناس يومها أنها لوازم لا تنفك عن التأشير والبصم بالخمسة على صلاح مضغته نسأل الله الثبات ونعوذ به من السلب بعد العطاء.
وكيف لا يبدو لهم ذلك ويطيب وقد كان خط سير الشيخ وركزه من على المنابر يؤشران على تطرف من وقفوا على شفا جرف فكره المعادي لكل ما فيه نفس رسمي، تلك العداوة التي غالبا ما تصادف هوى في أنفس حديث العهد بالالتزام.
ومع استبدال الأدوار والتولي عن قبلة الأمس صار اليوم الخط المتصاعد لميوعته وجرأته على قطعيات الدين، وإظهار علمانيته، والانقلاب والتمرد على كل ما يمت لماضيه القريب بصلة، صار هذا الخط الجديد معيارا لتوجيه تهمة الداعشية وإلصاق مثلبة الإرهاب والتطرف ورفع شارتيهما في وجه المعارضين والرافعين من عقيرة مواجهته وهو يختال في ثوبه الحداثي المارق القشيب.
ولست أدري إلى حدود منتهى محبور هذه السطور مصدر ذلك الإحساس ولا بواعثه، التي تقف وتحول دون استساغة فعل التحول أو القبول بصوته وصورته وريحه، اللهم إلا عبر منخلة التجوّز المرهون بمروره ثقيلا على النفس مستكرها من الحس والطبع، من جهة ما يلزم من معتقد حسن صحيح في عدل الله وكرمه وواسع رحمته، فإنه جل جلاله تعالى وتنزه وتقدس عن الظلم علوا كبيرا حتى يخذل البدايات الإيمانية المخلصة والمنيبة بنهايات مرتدة مارقة.
ويجدر بنا في هذا المقام التنبيه على أن رواية ابن مسعود المشكلة الظاهر قد بيّن ووضح ظاهر غموضها وقيّد فضفاض إطلاقها عليه الصلاة والسلام في رواية سهل إذ قال رضي الله عنه: “الْتَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَاقْتَتَلُوا فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالُوا: أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: لَأَتَّبِعَنَّهُ فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ: فَقَالَ وَمَا ذَاكَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَال: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّار، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ).
كما أن التسليم بحالة الانفكاك بين الدين كمعرفة وثقافة ورواية ودراية مقصودة لغيرها، وبين الدين أو التدين كسلوك صادق وإخلاص مقصود لذاته، لا يتم قبول العبادة والإجزاء عليها إلا بشرط وقرينة وجوده وكمال توقيعه، وهو تسليم له دوره في تحوير وتأطير فكرة التحول وجودا وعدما، سيما وأن وجود المعرفة لا يقتضي ولا يلزم منه حصول ذلك المقصود لذاته، وهو أمر لا اتهام فيه ولا جسارة تأل به على الله، وإنما هو حق له شواهد ومعطيات محسوسة مذيلة بأرقام لأسماء ورسوم بلغت في الجانب المعرفي الديني مبلغا مبهرا.
بينما تحدث الناس عن سلوكها وفعلها وعلاقتها مع الله، وأنها علاقة كانت تحت الصفر، بل تسفلت حد المكر بالدين والكيد له ولأهله كيدا، كما حصل في أروقة الاستشراق ورواده المتربصين، من الذين انكبوا وعكفوا في صبر وطول مرابطة كموظفين في وزارات الاستعمار الغربي الغاشم، ينهلون بنهم من تراث الإسلام وموروث ثقافته العلمية والمعرفية، فهل غادرت نواصيهم وقلوبهم عصبية نصرانيتهم، بل هل تغير موقفهم من نبي الإسلام وكتاب المسلمين؟؟؟
ولسنا نود الاسترسال والإيغال في مناقشة قضية التحول، أو الانقلاب الذي طبع المسيرة الدعوية والسيرة الإعلامية للأستاذ أبي حفص الرفيقي، فثمة زخم من المناقشات الهادئة والساخنة والحارة أحيانا قد تلا عربداته ونزق خرجاته الإعلامية الأخيرة، كما أن ثمة أولويات لم يلتفت إليها الكثير من المتعاطين مع هذا الانسلاخ، تلك الأولويات التي يحيل موضوعها على المسؤولية المعنوية للأستاذ أبي حفص، فيما يخص الملف الأمني للكثير من خيرة الشباب المغربي الملتزم، ممن يقبع اليوم يقضي زهرة عمره وراء قضبان السجون المغربية، تنفيذا لأحكام زجرية استوعبت ولا تزال سنوات شدادا عجافا يأكلن ما قدم لهن من زهرة هذا العمر الذي نشهد الله وملائكته والناس أجمعين، أنه ما كان ليمر ولا لتمر أيامه في هذا الضيق والقدرة، لولا تلك العربدات الحرورية للمستدرك اليوم على فريضة الإرث، هذه العربدات التي كانت تميل بهذه الأفئدة الفتية كل الميل، وعند ربها تلتقي الخصوم…
وليس يدري المرء أي إحساس ذلك الذي ينتاب هذه السخائم الشبابية، وأخبار شيخهم وتفاصيل ارتداده تتوارد وتتسلل في علن ولواذ إلى خلواتهم وجلواتهم السجنية…
ليس يدري المرء حجم تسخطهم، ودرجة حيرتهم في ما أصاب وتخبط شيخهم من مس شيطاني.
ليس يدري المرء كَمَّ وكيف ندمهم وحسرتهم على سوالف أيام كانوا فيها يخاصمون ويوالون ويعادون دفاعا عن أفكار شيخهم الصادع بما توهموه حقا في مقابل تخوينهم لأعلام وعلماء لهم وزنهم في وجدان الأمة، ولا وزن لهم في ضمير شيخهم.
ليس يدري المرء كيف كانوا يتلقون ما ترادف من استدراكات تجرم وتتهم عقيدة الأمس التي أخذوها منه بالتلقين والمشافهة وعلو السند إليه.
ليس يدري المرء أي إحساس ينتابهم ويهجم عليهم، وهم يسمعون شيخهم يتهم من كانت فتاويه تعد قواعد انطلاق وتأسيس بالنصب والحرورية، بل يستدرك على عدل الله وسواء فضله وسوي قسمته في الإرث ونصيبه المفروض.
لا شك أن حزنهم كبير وإحساسهم بالغبن أكبر، ولا شك أن هزيمتهم النفسية وخسارة فقدانهم الثقة في من حولهم، وكبيرة إسقاطهم لمؤسسة القدوة، وتنحية هداياتها من سيرهم وسيرتهم اليوم وبعده، هي أدهى عليهم وأمر من عزلتهم وخلوتهم التي يقضون مدتها خلف القضبان، يناجون ربهم ملتمسين منه جل جلاله العفو والمغفرة بمحض قوله سبحانه “ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين”.
ولا شك أيضا أننا لا نملك إلا أن نواسيهم ونعزيهم في كبير مصابهم في شيخهم الحالة وليس الذات، خصوصا وهم يعلمون كما نعلم أن الحالة صارت أثرا بعد عين، والذات صارت عينا بعد أثر، عين وذات ما فتئت تشاغب وتشن حملاتها، وتوقد العداوة ضد الثوابت والأصول الدينية، فتستبدل الأدنى بالذي هو خير، وتبيع حظها النفيس بعاجل دنيا خسيس نسأل الله الثبات في زمن المدلهمات…