انقطع عمله إلا من ثلاث

 

ومن بركة هذه الأمة، وبركة نبيها عليها، أن الله تعالى لم يقطع عنها جميع أعمالها بعد موتها، ولم يحرمها الثواب بانقضاء الأجل وانقطاع العمل فيه، وإنما جعل لها أعمالا تفتح لها بعد الموت أبوابا من الأجور والثواب والحسنات، وهي ما يعرف بالصدقات الجارية..

فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له).

والمؤمن الموفق هو الذي يسعى حثيثا ليكتنز قبل الموت عملا يجري عليه ثوابه بعد الموت، ويسارع في ذلك قبل أن يموت وينسى كما نسي الكثير من الناس، فلا يكاد أحد يذكرهم بدعوة فضلا أن يتفضل عليهم بصدقة

وقد تمنى ذلك أقوام ولكن قتلهم التسويف وطول الأمل، ففاجأهم الموت قبل ذلك، ولهذا أمرنا الله بالمسارعة في الخير والمسابقة إليه، فقال: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران:133]،، وقال: {سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد:21]. فالموفق من سارع وسابق يكون له من أحدها نصيب، أو منها جميعا.

أولها: صدقة جارية

وكلمة الصدقة يرى كثير من أهل العلم أن المقصود بها هنا الوقف، وهو حبس الأصل وتسبيل المنفعة… وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يسارعون إلى ذلك:

ففي صحيح ابن خزيمة: “أنَّ عُمرَ أصابَ أرضًا بخيبرٍ، فأتى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ليستأمرَ فيها قالَ: إنِّي أصبتُ أرضًا بخَيبرٍ لم أُصِب مالًا قطُّ أنفسَ عندي منهُ، فما تأمرُ بِهِ قالَ: إن شِئتَ حبستَ أصلَها، وتصدَّقتَ بِها. قالَ: فتصدَّقَ بِها عمرُ أن لا تُباعَ أصولُها، لا تُبتاعُ ولا توهَبُ، ولا تُورَّثُ، فتصدَّقَ بِها على الفُقراءِ والقُربى والرِّقابِ وفي سبيلِ اللَّهِ وابنِ السَّبيلِ والضَّيفِ لا جُناحَ عَلى من وليَها أن يأكلَ منها بالمعروفِ أو يطعمُ صديقًا غيرَ مُتموِّلٍ فيها”.

وفي صحيح البخاري عن أنس: “كانَ أبو طَلْحَةَ أكْثَرَ أنْصَارِيٍّ بالمَدِينَةِ مَالًا مِن نَخْلٍ، وكانَ أحَبُّ مَالِهِ إلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وكَانَتْ مُسْتَقْبِلَ المَسْجِدِ، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدْخُلُهَا ويَشْرَبُ مِن مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قالَ أنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا ممَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أبو طَلْحَةَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ يقولُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا ممَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران:92] وإنَّ أحَبَّ مَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وإنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أرْجُو برَّهَا وذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يا رَسولَ اللَّهِ حَيْثُ أرَاكَ اللَّهُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بَخٍ، ذلكَ مَالٌ رَابِحٌ، أوْ رَايِحٌ – شَكَّ عبدُ اللَّهِ – وقدْ سَمِعْتُ ما قُلْتَ، وإنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَهَا في الأقْرَبِينَ. فَقالَ أبو طَلْحَةَ: أفْعَلُ يا رَسولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أبو طَلْحَةَ في أقَارِبِهِ وفي بَنِي عَمِّهِ”.

واحْتَبَسَ خالد بن الوليد رضي الله عنه أدراعه وأعتاده في سبيل الله.. شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، كما في صحيح مسلم.

فمن أراد بنفسه خيرا، وكان ذا سعة فليأخذ من دنياه لآخرته، وليوقف شيئا لله تعالى، وقد ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه صورا للوقف والصدقة في الحديث الذي رواه ابن ماجة بسند صحيح، قال: (إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه، وولدًا صالحًا ترَكَه، ومُصحفًا ورَّثَه، أو مسجِدًا بناهُ، أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ، أو نَهرًا أجراهُ، أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ).

علم ينتفع به

فالعلم النافع يتعلمه ثم يعلمه، أو يؤلف شيئا فيه يتعلمه الناس بعد موته، والعلم الشرعي أعظمه ثوابا، وكل علم تنتفع به الأمة وينفع المسلمين والناس بنية طيبة فهو من العلم النافع الذي يبقى أثره وأجره بعد الموت.

وكذا من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة، وكان أجر كل من صلى فيه في ثوابه وصحيفة أعماله، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا.

أو مصحفا ورثه، لمن بعده، أو طبعه على نفقته ووزعه على من لا يجد، خصوصا في البلاد الإفريقية والفقيرة التي يندر فيها المصاحف، فكل من تعلم منه أو قرأ فيه أو حفظ منه وحفّظ، كان في ميزان واقفه، وناشره.

أو نهرا أجراه، أو بئرا حفره، يشرب الناس منه، ويسقون زروعهم وما شيتهم.

وإنما هذه أمثلة ضربها النبي صلى الله عليه وسلم للصدقة الجارية، ليس حصرا فيها، وإنما للدلالة على أمثالها، وكل شيء انتفع به الناس فإنما ثوابه في صحيفة فاعله ما دام الناس ينتفعون به.

وولد صالح يدعو له

والحديث فيه دعوة لتحصيل الولد بالزواج، والسعي في طلب الذرية، وكذلك دعوة لبذل الجهد في تربيتهم تربية صحيحة، فالولد الصالح كسب أبيه، وكل خير علمه إياه والداه، أو دعوه إليه، أو غرسوه فيه وأمروه به فلهم مثل أجر فعله، ثم الولد الصالح يرجى بره لوالديه بعد موتهما، بالدعاء لهما، والصلاة عليهما والاستغفار لهما، والصدقة عنهما، والوقف عليهما.. فكل هذا مما يصل ثوابه لهما..

فيا أيها المسلم الموفق هذا باب للخير واسع، فاجعل لك أثرا يبقى بعد موتك يكتب الله لك به الأجر فما أحوجك لهذا، وقد قال ربنا في كتابه: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس:12].

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *