«هولوكوست الأرمن» وقفات مع إدانة «أردوغان» لخلفاء آل عثمان مصطفى الحسناوي

لا شك أن استهداف الأبرياء والعزل وأصحاب الدماء المعصومة جريمة بكل المعايير والمقاييس والأعراف والشرائع كائنا من كان ارتكبها. ومن تم كانت إدانتها واجبة تبشيعا لها وتجريما لمقترفها ومواساة لضحيتها. ويستغرب المرء من إصرار كثير من الدول على عدم الاعتذار على جرائمها البشعة الحاضرة والماضية.
وتشترك الدول الاستعمارية الغربية في ماض إجرامي سيبقى وصمة عار على جبينها مهما حاولت تغطيته وتجميله بالمساحيق، كفرنسا التي قتلت من الجزائريين وحدهم مليون شهيد، واستهداف إسبانيا لمغاربة الريف بالغازات السامة، وجرائم إيطاليا في ليبيا وجرائم بريطانيا وأمريكا وروسيا و«إسرائيل» الماضية والحاضرة التي لم تتبرأ منها أية دولة من هذه الدول أو تعتذر عنها.
أخيرا تبرأ واعتذر «أردوغان» عن المذابح التي تعرض لها الأرمن على يد جيوش الخلافة العثمانية. خطوة جريئة وشجاعة لولا أن غشاوة من الضباب تغلف الموضوع وتحول دون رؤيته بالشفافية والوضوح اللازمين.
كلمة «أردوغان» لمن تأملها تحمل إدانة وتبرئة للخلافة العثمانية في نفس الوقت. والرجل معروف بدهائه السياسي الذي لا يقل عن اعتزازه بماضيه العثماني.
ومن شروط السياسة الناجحة في زمن المصالح أن تكون ماكرة ضبابية وبراغماتية. لذلك ومن أجل قطع الطريق على خصومه وأعدائه لجأ «أردوغان» إلى أكل الثوم بفم العثمانيين وأمدهم من تحت الطاولة بفرشاة ومعجون أسنان.
سأتوقف أنا البعيد عن إكراهات السياسة ومكرها عند هذه التهمة التي يحذف بها الكل الخلافة العثمانية كما يحذف الحجاج إبليس اللعين بالجمرات. ولنبدأ من التاريخ الذي اختار «أردوغان» أن يغازل فيه الأرمن وحماة حقوق الإنسان وحقوق الأقليات ودعاة تقرير المصير من دول العالم المتحضر ومنظماته ولوبياته، إنه الرابع والعشرين من شهر أبريل.
في مثل هذا التاريخ من سنة 1915 حدثت المذابح بحق الأرمن لكن هناك حقيقتان يتجاهلهما الكل سأذكرهما إجمالا قبل أن أعود لهما بشيء من التفصيل.
ـ الحقيقة الأولى أن الأرمن أنفسهم ساندوا الاحتلال الروسي لبعض المناطق التركية ومارس جنودهم البشاعات والفظائع والجرائم في حق الأتراك.
ـ الحقيقة الثانية هي أن الخلافة العثمانية انتهت فعليا بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني والانقلاب عليه سنة 1909 وتولي العلمانيين والقوميين الأتراك متمثلين في جمعية الاتحاد والترقي زمام الأمور.
يحلو لكثير من أعداء المشروع الإسلامي نصب المحاكم إما للإسلام أو لنظامه في الحكم أو لفلسفته في التغيير والنهضة من خلال ضرب الأمثلة المشوهة أو المبتورة عن سياقاتها وظروفها وملابساتها أو التجارب الفاشلة إما بعوامل خارجية أو حتى داخلية. والخلافة العثمانية إحدى تلك الأمثلة التي وجد فيها الاستئصاليون ضالتهم بالحق وبالباطل.
ولا شك أن لكل دولة مرحلة ازدهار ومرحلة اندحار، فترة قوة وفترة ضعف وضمور وتكالب الطامعين عليها، زمن قيادة وريادة وزمن تبعية. بالنسبة لي بدأ العد العكسي للدولة العثمانية مع معاهدة كرولوفيتز سنة 1699 حين تخلت بموجبها الدولة العثمانية عن ممتلكاتها في المجر وترانسلفانيا وكرواتيا وسلوفينيا والبيلوبونيز وديلماتيا لكل من النمسا وبولونيا وروسيا والبندقية.
ثم جاءت حملة «نابوليون» على مصر سنة 1778، بعدها تم تعيين محمد علي باشا واليا على مصر سنة 1805 قبل أن يشن حروبه على الخلافة العثمانية وينقلب عليها في الفترة بين 1830 و1840. وعمل على تحديث مصر وفق مخطط فرنسي مدروس سعيا من فرنسا إلى إيجاد بؤر مستقلة في داخل الجسم العثماني في أفق تفكيك وإسقاط الخلافة العثمانية؛ تارة بحجة التطوير والتحديث والإصلاح؛ وتارة بحجة حقوق الطوائف غير الإسلامية والأجانب كما هو الشأن بالنسبة لمحاولة الإصلاح المعروفة بحق الشريف كلخانة سنة 1839 وخط هامايومي سنة 1856 بسبب حرب القرم (ما بين 1853 و1856).
سنة 1865، سيعلن عدد من علمانيي تركيا وقومييها ومجموعة من الصهاينة عن جمعية الاتحاد والترقي في أول اجتماع لها في نفس السنة في شهر يونيو.
وتحت حجة الإصلاحات والمساعدات نظمت أوروبا أطماعها ورتبت أوراقها ونسقت فيما بينها وباشرت أولى خطوات الانقضاض على ما أصبح يسمى فيما بعد بالرجل المريض لتقسيم تركته وهكذا تم إنشاء الصندوق الدولي العثماني سنة 1881.
وهو صندوق أنشأته الدول الأوروبية وكانت إدارته فرنسية إنجليزية وكان يسيطر على بعض موارد الدولة العثمانية وولاياتها وكانت تحت سيطرته وتصرفه.
وظهر تنظيم تركيا الفتاة داخل الدولة العثمانية سنة 1889 بعد أن كانت بدأت نشاطها في لندن عام 1864 وكان هدفها إلغاء الخلافة وعزل السلطان عبد الحميد الثاني الذي أعاد الهيبة قليلا للخلفاء وللخلافة العثمانية بوضعه حدا لتصرفات الصدر الأعظم مدحت باشا وبرفضه إغراءات الصهاينة وضغوطات الأوروبيين.
محاولات جمعية الاتحاد والترقي التي لا يفرق البعض بينها وبين تركيا الفتاة نجحت سنة 1909 بعزل عبد الحميد الثاني وتنصيب سلطان صوري ضعيف متقدم في السن لكن السلطات الفعلية والحل والعقد كان بيد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي ولم يكن حال الصدر الأعظم بأفضل من حال الخليفة الشكلي، وكان تعيين الوزراء والموظفين السامين وعقد المعاهدات والتحالفات مع الدول الأوروبية كله بيد الطورانيين والعلمانيين واليهود أعضاء حزب الاتحاد والترقي الذين كانت أهدافهم هي نفس أهداف الحركة الصهيونية التي كانت نشطة في تلك الفترة وعقدت ما بين 1897 و1909 سنة عزل السلطان عبد الحميد تسع مؤتمرات.
وبدأ عربان الجزيرة في التململ بدعم إنجليزي وفرنسي للقضاء على الوجود العثماني وإنشاء خلافة عربية قائدها عميل المخابرات لورنس الذي كان يحرك الجيوش العربية كما يحرك الطفل لعبه التافهة.
وأكمل الشريف حسين الذي أصبح أميرا على مكة سنة 1908 ما بدأه محمد علي من حروب على الدولة العثمانية. ورسائل هنري ماك ماهون إلى الشريف حسين تبين حجم مؤامرة الغرب وخيانة العرب تلك الخيانة والعمالة والسذاجة التي يصورها الروائي الجزائري… الأعرج في روايته الرائعة رماد الشرق يختزل أحداثا تاريخية مدلهمة في عبارات تفيض بالأحاسيس تنقلك لتعيش تلك التجربة بكل آلامها ومكرها متفاعلا مع أبطالها كأنك تعيشها الآن رغم مرور أزيد من قرن من الزمن.
في هذه الفترة التي بدأ تقطيع أوصال الدولة العثمانية وسلب ممتلكاتها وقضم أطرافها وتأجيج الفتن حولها بتآمر بين الدول الأوروبية وجمعية الاتحاد والترقي من أجل الإجهاز نهائيا على كل ما يمت للماضي العثماني بصلة وتقويض أركانها وإعادة بنائها على أسس علمانية حداثية، وأثناء الحرب العالمية الأولى التي كانت الدولة العثمانية طرفا فيها احتلت روسيا مناطق جنوب شرق تركيا سنة 1915. وساند الأرمن بوحدات مسلحة تحت قيادة روسية هذا الاحتلال وقتل الأرمن 5000 من المواطنين الأتراك العزل وصادروا محاصيلهم.
وهذه حقائق تاريخية لا يستطيع أن ينكرها أحد أن الأرمن قتلوا وأبادوا من الأتراك وحاربوهم أيضا ودعموا الاحتلال الروسي لتركيا. وأن ذلك وقع في عهد سيطرة الدول الاستعمارية الغربية على تركيا سياسيا واقتصاديا وعسكريا وفي عهد حكم عملائهم من العلمانيين والطورانيين من تركيا الفتاة والاتحاد والترقي، ست سنوات بعد نهاية الخلافة العثمانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *