النموذج الثامن: البدعة الناشئة عن المذاهب الفقهية:
كل النماذج السابقة تستهدف بعض ما ألصق بالإسلام عن طريق أهل الكلام والتصوف، وهذا النموذج يستهدف ما ألصق بالإسلام عن طريق المذاهب الفقهية القائمة..
نعلم تاريخيا أن المذاهب الفقهية لم تعرف إلا بعد القرون الثلاثة الأولى من الهجرة، وهذا ابن حزم يقول: “نحن نسألهم أن يعطونا في الأعصار الثلاثة المحمودة رجلا قلد عالما كان قبله فأخذ بقوله كله ولم يخالفه في شيء، فإن وجدوه -ولن يجدوه- يسبقهم إليها أحد، ومع هذا فنحن لا نشك أن المذاهب الفقهية في أول أمرها مجهودات متكاملة بالنظر إلى وحدة مصدرها ومناهجها، كما لا نشك أنها جبهات متباغضة متقاتلة بالنظر إلى أتباعها وأزمانها وأماكنها، فالنظرة الأولى تولد الإعجاب بسعة أفق التفكير عند فقهاء الإسلام، والنظرة الثانية تولد الأسف الشديد على ما أصاب نفوس أتباع المذاهب من التحجر والبلادة والكراهية والتفرق والعداوة بين أتباع كل مذهب وأتباع مذهب آخر، وقد يظن من لم يطلع على أحوال علماء المذاهب أن التحجر المذكور والعداوة المشار إليها إنما هي عوارض كثيرا ما تصيب العوام من أتباع المذاهب دون العلماء الراسخين، غير أن من اطلع على تراجم علماء المذاهب يلاحظ أن هذه الأدواء قد أصابت العلماء المرموقين في كل مذهب قبل أن تصيب العوام من أتباع كل مذهب، والدليل على ذلك ما كتبه السيد عبد الحي الغماري المغربي في رسالة “نقد مقال”، قال رحمه الله: “كانت بدعة تقليد رجل واحد سببا في حدوث بدعة أخرى أعظم قبحا من سابقتها، تلك هي قيام أتباع كل مذهب بنصرة مذهبه والدعوة إلى وجوب تقليده وتحريم تقليد غيره من المذاهب، وألف أتباع كل مذهب من المذاهب الأربعة كتبا في مناقب إمام المذهب من العلم الواسع وحسن الاستنباط ودقة النظر والاتباع للكتاب والسنة، وغير ذلك من المناقب المرغبة في تقليده والتنفير من تقليد غيره، ومن رجع إلى حرف الميم من كشف الظنون أخذه العجب كل مأخذ من كثرة التآليف في مناقب كل إمام من الأئمة الأربعة التي لا قصد لمؤلفيها إلا نصرة مذهبهم وإلزام الناس كافة تقليده في كل شيء صوابا كان أم خطأ، ومنهم من خرج عن حد الاعتدال وولج في ذلك إلى حد الإفراط ولمز بعض الأئمة بما لا يجوز عند عاقل لمزه به، كما فعل إمام الحرمين في رسالته “مغيث الخلق في ترجيح قول الأحق” التي رجح فيها مذهب الشافعي على سائر المذاهب وقدح في مذهب أبي حنيفة قدحا صريحا لا يمت إلى النقد العلمي بأي صلة، وتصدى للرد عليه علي القاري الحنفي في رسالته “تشييع فقهاء الحنفية لتشنيع سفهاء الشافعية” وقد أبان فيها عن جرأة ووقاحة مما لا ينبغي صدوره من جاهل فضلا عن عالم، فقد زعم أن الشافعي لم يكن من المجتهدين وأخرج إمام الحرمين من دائرة المسلمين وطعن في مذهب الشافعي كما شاء له ذوقه وحمله عليه تعصبه لمذهبه الحنفي ونهج منهج الشيخ زاهد الكوثري الحنفي في كتابه “تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب” فما ترك عالما غير علماء مذهبه إلا لمزه وطعن فيه بسفه ووقاحة حتى زعم أن الحافظ أبا بكر الخطيب كان يشرب الخمر وأن مالكا والشافعي كانا يلحنان وأن الشافعي لم يكن قرشيا، وكتابه مطبوع يمكن الاطلاع عليه ليعلم ما يفعله التعصب للمذهب بعقول المقلدين وبجهلهم على الافتراء على العلماء بما هم براء منه كل البراءة”، قال: “ونقل الحطاب عن ابن سهل أنه نقل عن بعض المقلدين لمذهب مالك أنه قال: “كل من زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن رين على قلبه وزين له سوء عمله”اهـ.
قلت: إلى هذا الحد وصل التعصب المذهبي بأهله، ومع ذلك ينشد بعض علماء الخلف عدم جواز الخروج عليها لانعقاد الإجماع على اتباعها دون اتباع غيرها! وهو الشيخ عبد الله ولد الحاج إبراهيم العلوي الموريتاني في نظمه “مراقي السعود” بقوله:
والمجمع اليوم عليه الأربعة *** وقفوا غيرها الجميع منعه