الاستغراب في فكر الدكتور عابد الجابري -4- (الانتصار للعقلانية الغربية) د.عبد الله الشارف كلية أصول الدين/كلية الآداب تطوان

العقلانية مذهب فلسفي ينطلق من كون العالم بنوعيه الميتافيزيقي والمادي لا يمكن إدراكه إلا بالعقل وحده، باعتباره الأداة الرئيسة للمعرفة. والعقلانية أيضا مذهب قديم في البشرية، يبرز أشـد ما يبرز في الفلسفة اليونانية وخاصة عند سقراط وأرسطو.

العقلانية مذهب فلسفي وتصور للكون والحياة ظهر في أوربا الحديثة انطلاقا من عصر النهضة. وهو مذهب يجسد بالأساس منطق الأوربيين ونظرتهم الفلسفية للوجود.
ولقد بقيت هذه الفلسفة مؤثرة في الفكر الأوربي زمنا ليس بالقصير، حتى ظهرت المسيحية فغيرت مجرى ذلك الفكر تغييرا جذريا حيث أبعد العقل وحل محله المنطق الكاثوليكي الكنسي بأغلاله وقيوده. وقد تمخض هذا المذهب في العصور الحديثة عن الصراعات الفكرية والعقدية التي رافقت تطور الفكر الأوربي منذ عصر النهضة. والعقلانية تمثل أحد الأسس التي قامت عليها الحضارة الأوروبية، كما شكلت الوقود الأساسي للثورات الصناعية والاجتماعية والسياسية.
وترتـبـط العقـلانية الأوربية تاريخيا بالفيلسوف الـفـرنـسي ديكارت. وكان الفيلسوفان سبينوزا وليبنز من أشد دعاتها المتحمسين لها، ولقد حاول الفيلسوف كانت التصدي لها وانتقدها في كتابه (نقد العقل الخالص)، إلا أنها انتعشت من جديد بفضل ازدهار (مدرسة هيجل) في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي.
“وإذا كان يمكن لنا أن نعتبر قول ديكارت سنة 1637: “أنا أفكر، إذا أنا موجود” شعار هذه المدرسة، فإن هذه البداية، كانت بداية لتحويل العقل من سلطة الكنيسة والحجة؛ وسلطة أرسطو وتوما الأكويني؛ ومن سلطة السلطان صاحب الحكم، ولا حكم غيره. والعقل الذي يقرر بحث كل شيء، يبحث في سلطة الكنيسة والدين، كما يبحث سلطة السلطان.
وهنا وصل “ديفيد هيوم” في بريطانيا، و”بول هولباخ” في فرنسا إلى الإعلان “أن لا أساس في العقل بتاتا للإيمان بالله”. وهنا وصل لوك (1632-1704) إلى (محاولة عن الحكومة المدنية) ومنتيسكيو (1679-1755) إلى (روح القوانين)، وجان جاك روسو (1712-1778) إلى (في العقد الاجتماعي).
وهكذا انتقلت العقلانية، من نقد الأفكار إلى نقد المؤسسات التي تحمي هذه الأفكار، وأهمها الكنسية والدولة. وفي هذه المعركة ولدت فكرة العقد الاجتماعي، وإرادة الشعب، وأسقطت أطروحة الحق الإلهي في السلطة، وحق السلطة المطلقة.
إن العقلانية لم تكن صراع أفكار فقط، ولا ولدت في عالم الأفكار. كان العالم القديم عالم القرون الوسطى يسقط، وكان عالم جديد ينهض، وكانت قوى العالم الجديد، هذه تنطلق من عقالها. إن حركة الانطلاق هذه ولدت العقلانية. كان العالم القديم، عالم الإقطاع والكنيسة وتوما الأكويني، أما العالم الجديد فهو عالم اكتشاف رأس الرجاء الصالح والعالم الجديد، وقيم الدولة القومية، واكتشاف الطباعة.
..يرى الأستاذ الجابري أن تاريخنا الثقافي لم يكتب بعد؛ وبتعبير آخر؛ لم يدون بطريقة مفيدة وايجابية أي نقدية وعقلانية. ومن هنا فهو يرى أنه إذا أردنا أن نعيد كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية وبروح نقدية، فلا سبيل إلى ذلك سوى استعمال وتوظيف المناهج والمفاهيم العلمية المعاصرة. معنى ذلك أنه يستحيل علينا فهم ذاتيتنا وتراثنا ما لم نستعمل “نظارة” غيرنا..
ومع ولادة هذا العالم الجديد، كان الفكر العقلاني يزدهر، ويسقط أغلاله، ويسقط معها مخلفات العصور الوسطى المتراكمة.
إن ولادة القوى الاجتماعية الجديدة ولد معه هذه الأفكار الجديدة. ولقد رافق الصراع الفكري صراع سياسي حاد، وكسبت القوى الجديدة معارك فاصلة، مثل الإصلاح البروتستانتي في ألمانيا، والثورات في انجلترا حيث قطع رأس الملكة، وقام أول برلمان حقيقي. ويجب أن ندرس هذه الفكرة جيدا، لأن العقلانية تولد مع قواها وتنتصر بانتصار قواها.
إن العقلانية، وهي بشكلها الذي نتحدث عنه غريبة، ارتبطت بقيام الدولة الرأسمالية في الغرب. ثم انتقلت إلى العالم. ولكنها، بدأت مدارس واتجاهات، وانتهت كذلك. وإذا كانت في ميدان العلوم قد ظلت تتقدم، وبلا توقف، فإنها في ميدان الفلسفة والسياسة شهدت تحولات وتقلبات كبيرة. ويعود هذا التقدم في العلوم، إلى أن البرجوازية كانت بحاجة إلى امتلاك التفوق في كل ميادين، لتملك السلاح المتفوق، ولتطور آلية إنتاج السلع، فتبقى مسيطرة على الأسواق.
أما في الفلسفة، فإن مواصلة تطور الفكر العقلاني، كانت ستفقد القوى البورجوازية الحاكمة القدرة على الاحتفاظ بالسطلة، ومقاومة أعدائها الجدد: البرولتاريا في البلدان الصناعية، والفلاحون الفقراء وحلفاؤهم في المستعمرات والبلدان التابعة. ولذلك ولدت الأفكار العرقية التي تفلسف حكم القوة والاستيلاء على المستعمرات، ومن ذلك النازية والفاشية والصهيونية.
وأما في السياسة، فإن العقلانية التي ولدت نظريات العقد الاجتماعي وفصل السلطات وإرادة الشعب؛ أباحت اتجاهات فيها احتلال المستعمرات، وتأييد القوى والأنظمة القمعية في “العالم الثالث”، ومحاربة القومية في البلدان النامية، وشن «الحروب المقدسة» على الشيوعية”1.
يتضح من هذا التمهيد أن العقلانية مذهب فلسفي وتصور للكون والحياة ظهر في أوربا الحديثة انطلاقا من عصر النهضة. وهو مذهب يجسد بالأساس منطق الأوربيين ونظرتهم الفلسفية للوجود.
والآن أقتطف من كتابات الأستاذ عابد الجابري بعض النصوص التي يدعو فيها إلى العقلانية والتي لا تخلو من الروح الاستغرابية.
يقول الدكتور الجابري: «ينبغي إعادة كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية وبروح نقدية.. والتعامل العقلاني النقدي مع تراثنا يتوقف على مدى ما نوظفه بنجاح من المفاهيم والمناهج العلمية المعاصرة»2.
ويقـول أيضا: «ونحن نعتقد أنه ما لم نمارس العقلانية في تراثنا، وما لم نفضح أصـول الاستـبداد ومظاهره في هذا التراث، فإننا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا.
حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة “العالمية” كفاعلين وليس كمجرد منفعلين»3.
وجاء في حوار أجرته معه مجلة (الثقافة الجديدة) المغربية، قوله: «إذا نظرنا إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر من هذه الزاوية، نجد أنه يفتقد هذا العنصر الفلسفي الذي يجعل منه فكرا يتحدث عن الممكن في إطار شروط تحقيقه، إن الخطاب النهضوي العربي المعاصر (سواء كان سلفيا أو ليبراليا أو حتى ماركسيا) يفتقد ما يكفي به العقلانية، مما يعني أن ضرورة الفلسفة في الفكر العربي الراهن، في تقديري، تعادل ضرورة العقلانية، ضرورة العقلنة»4.
يرى الأستاذ الجابري أن تاريخنا الثقافي لم يكتب بعد؛ وبتعبير آخر؛ لم يدون بطريقة مفيدة وايجابية أي نقدية وعقلانية. ومن هنا فهو يرى أنه إذا أردنا أن نعيد كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية وبروح نقدية، فلا سبيل إلى ذلك سوى استعمال وتوظيف المناهج والمفاهيم العلمية المعاصرة. معنى ذلك أنه يستحيل علينا فهم ذاتيتنا وتراثنا ما لم نستعمل “نظارة” غيرنا.
بيــد أنـه إذا كانـت الـمناهـج الـعـلمـية المعاصرة قـد أفرزتها الحضــارة الغـربـية لتتخـذها -بالأساس- أداة لفهم وتحليل ثقافاتها الأوربية، أي أن هذه المناهج تم وضع هندستها وشكلها ليتناسب مع تلك الثقافات، فكيف يتأتى لنا استعمالها لتحليل ثقاقتنا الذاتية؟
قد يجيب الأستاذ الجابري بقوله: «إن مفاهيم العلوم الإنسانية في الغرب ترتبط بالمرجعيات التي تـؤسس الثقافة الغربية والفكر الغربي، ولكنها في ذات الوقت تعبر عن واقع إنساني عام. فإذا استطعنا أن نربط هذه المفاهيم بمرجعياتنا أي أن نبيئها (من البيئة) في محيطنا وثقافتنا فإنها ستصبح ملكا لنا»5.
هذه الإجابة وجيهة ومنطقية إلى حد ما، ولكن كيف السبيل إلى هذه “التبيئة” (إن صح التعبير)؟
وهل وضع لها كاتبنا إطارا نظريا أو خطة منهجية دقيقة ومناسبة؟!
كلا إنما نجده في كتاباته يتبنى كل ما يجذبه ويستلبه ويأسره من مفاهيم وتصورات غربية ولا “يبييء” منها شيئا.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] ـ ناجي علوش: العقلانية في الممارسة السياسية العلمية، ص:146ـ147.
[2] ـ د. محمد عابد الجابري إشكاليات الفكر العربي المعاصر ص:35
[3]ـ التراث والحداثة المرجع السابق ص:17.
[4] ـ نفس المرجع ص:242.
[5] ـ د.محمد عابد الجابري: التراث والحداثة، ص:287.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *