الديـن النصيحــة طارق برغاني

المسلمون جسد واحد وتماسكهم يشكل بنيانا متراصا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المُؤمِنَ للمُؤْمِنِ كالبُنيانِ، يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا، وشَبَّكَ أصابِعَهُ» البخاري:481، ومحبة الخير لبعضهم البعض شرط في تحقيق الإيمان الصادق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه» البخاري: 13.
وتتجسد هذه القيم النبيلة والأخلاق الراقية في مجموعة من المظاهر والسلوكات تزيد من تلاحم المسلمين فيما بينهم واستحكام روابط تماسكهم، ومن بين تلك المظاهر، نجد فضيلة التناصح بين المسلمين، وإرشاد بعضهم لبعض إلى فعل الخير وابتغاء الصلاح وتعليم العارف للجاهل، باللين والحسنى وفيما يرضي الله عز وجل.
فقد حث الإسلام على إسداء النصح وجعل النصيحة إطارا شاملا وصفة جامعة للدين كله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألَا إنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ ألَا إنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ ألَا إنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ» قالوا: لِمَن يا رسولَ اللهِ؟ قال: «للهِ ولكتابِه ولرسولِه ولأئمَّةِ المسلِمينَ وعامَّتِهم» صحيح ابن حبان:4575.
والنصيحة في اللغة تتضمن معان بليغة ودلالات قوية تحمل في مجملها معاني لغوية منها الصفاء والنقاء والطهر والصدق ومناقضة الغش، ويتضمن في الاصطلاح معاني الإرشاد إلى الصواب والتوجيه والصلاح وتعديل السلوك وتهذيب التصرف: «..والنصح: نقيض الغش مشتق منه نصحه وله نصحا ونصيحة.. ويقال: نصحت له نصيحتي نصوحا أي أخلصت وصدقت، والاسم النصيحة. قال ابن الأثير: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له فليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تجمع معناها غيرها..» اللسان: 14/269-270، ولهذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم يؤسس مدار الدين كله على مبدإ التناصح بين المسلمين لما فيه من إشراقات نجملها فيما يلي:
النصيحة باب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن رأى مِنكُم مُنكرًا فليغيِّرهُ بيدِهِ، فإن لَم يَستَطِع فبِلسانِهِ، فإن لم يستَطِعْ فبقَلبِهِ. وذلِكَ أضعَفُ الإيمانِ» مسلم: 49، وبما أن النصيحة قد تكون باليد أو باللسان، كحال من يوجه نصحه بالكتابة والخطابة والرسائل والمواعظ وغيرها، فهي داخلة في وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما فيها من تقويم للسلوك المنحرف وتعديل للمسار المعوج وتوجيه إلى التصرف الرشيد.
النصيحة توطيد للثقة بين المسلمين
مبدأ التناصح بين المسلمين يتأسس على الألفة والمحبة وتأكيد الثقة المتبادلة بينهم، فلا يستنصح مؤمن أخاه المؤمن إلا أذا اعتقد فيه حسن الظن ووثق في كلامه واطمأن لسيرته، ولا يوجه مؤمن نصيحة لأخيه المؤمن إلا بعدما وقر في قلبه حبه وقصد بذلك جلب منفعة له ودفع مضرة عنه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه» سبق تخريجه.
النصيحة توجيه إلى السلوك الصحيح
لا يخلو مجتمع من عدد من السلوكات المنحرفة والتصرفات الشاذة، إما بسبب الجهل أو التقليد الأعمى أو البدع أو الغفلة أو غيرها، وتقويم هذه السلوكات مبدأه إسداء النصح وإظهار مساوئ ذلك الفعل للمنصوح وإقناعه بالكف وبالإقلاع عنه، بأسلوب لين وحكيم وبتقديم أدلة شرعية متى تأتَّى ذلك، يقول الله تعالى على لسان نوح: «قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» الأعراف:61-62.
النصيحة صدح بالحق
وشواهد ذلك من التاريخ وفيرة من القرآن والسنة وكتب السيرة وسير الأعلام، ويتطلب الجهر بالحق في موقف النصيحة والدعوة إلى الحق، جرأة وكفاءة علمية وأهلية خُلُقية ومستوى عال في الترفع عن سفاسف الأمور والمغريات الدنيوية، وإيمانا قويا لا يثني صاحبه عن قول الحق والصدح به، خصوصا إذا عم السلوك المنحرف فئة واسعة من المجتمع أو كان الحُكم الباطل صادرا من فئة أو فرد من ذوي السطوة والسلطة، يقول الله تعالى في قصة موسى وأخاه هارون مع فرعون: «اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخْشَىٰ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَو أَن يَطْغَىٰ قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ» طه: 43-47.

النصيحة كبح عن التمادي في الباطل
وهذه الإشارة تكملة لسابقتها وهي في الحقيقة نتيجة وثمرة لتحققها، فمتى صدح الناصح بالحق أمام ظلم مستشر أو منكر مستفحل، ووقع نصحه موقعا إيجابيا في نفوس الناس، إلا وكُبح سريان ذلك الظلم وتلاشى بطلانه بنور الحق، يقول الله تعالى: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُو زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» الأنبياء:18.

النصيحة من أسباب وحدة الأمة
ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يجعلها من جُماع الدين ومحورا رئيسا عليه يدور، حين قال: «الدين النصيحة»، ويوسع النبي صلى الله عليه وسلم دائرة النصح من الأضيق إلى الأوسع لتعم كافة المسلمين وأئمتهم في إشارة إلى أن الأمة المسلمة وحدة متماسكة همها مشترك وصلاحها في تناصحها، فلا يتصور صلاح مجتمع غابت فيه فضيلة التناصح والتشاور بين أفراده، لأن هذا المجتمع سيتفكك وينهار بعدما تشيع فيه الفواحش وتستباح فيه المحرمات ولا أحد يستنكر ذلك، يقول الله تعالى: «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَو مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ» الأعراف: 164-166.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وانفعنا بما علَّمتنا إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *