إسلام القرن الرابع عشر هو إسلام القرن الأول

في الوقت الذي يوشك فيه العالم الإسلامي أن يكمل القرن الرابع عشر من حياته الخالدة ليدخل في قرن جديد، يحق للباحث المعاصر أن يتساءل بعلم وتجرد عن إمكانات حدوث تطور ثوري في هذا العالم، وعن آفاق اتجاهات هذا التطور، لا نحو اليسار، فهذا موضوع قائم على حدة، ولكن نحو قيام مجتمع إسلامي جديد، شبيه أو قريب الشبه بمجتمع الإسلام الأول، تنبثق عنه دولة إسلامية القانون والنظام والأخلاق في خلال القرن الخامس عشر الهجري؟..أم القرن الأول للإسلام، فهل نستطيع خلق الظروف الضرورية لتحقيقه عمليا؟ وما هي هذه الظروف؟

ومن البديهي أن نقطة الانطلاق في هذا الحديث، تقوم على الاعتراف منذ البداية، بأن إسلام المسلمين المعاصرين، شعوبا ودولا، شرقا وغربا، ليس إلا صورة قاتمة للإسلام الأول؛ والمسلمين الأولين، ولا يمكن أن تؤخذ هذه الصورة على أنها المثال الحقيقي للإسلام الحق.
وهناك حقيقة أخرى يجب أن نشير إليها أيضا، وهي أن حضارة القرن الذي يعيشه المسلمون اليوم تتميز بتراكم المعرفة من جهة، وتراكم المشاكل من جهة أخرا، ومن المعلوم أن التقدم العلمي الذي واكب التطور البشري ظل فجر التاريخ في تضخم ونمو مطردين، وقد ساهمت كل الحضارات والأديان والشعوب خلال التاريخ، في اتساع المعرفة الإنسانية وعملت الثورة الصناعية، وخاصة منها وسائل النشر والإعلام والمواصلات على نشر وتعميم هذه المعرفة لدى الشعوب، بعد أن كانت محصورة في النخبة، وبالجملة فإنه لم تتراكم الأعمال والمواصلات والعلوم والثقافات واللغات في عصر من العصور مثلما تراكمت في أواخر هذا القرن لدى الدول المتقدمة، ولم تتراكم المشاكل الناتجة عن التخلف الاجتماعي، والاستبداد الداخلي، والاستعمار الأجنبي، في عصر من العصور، مثلما تراكمت منذ القرن الماضي لدى الدول المختلفة، التي تنتمي إليها دول العالم الإسلامي.
في مثل هذا العصر، بهذه الحضارة، مع هذا التوزيع السيئ للمعارف والثروات والقوات، ما هي العراقيل التي تقف في طريق انبعاث المجتمع الإسلامي؟
للجواب على ذلك يمكن أن نقول أنها صنفان: خارجية وداخلية، فأما العراقيل الخارجية فهي شهيرة لا تحتاج إلى تذكير، وأخطرها الاستعمار والصليبية والصهيونية، وعداؤها وتحالفها جميعا ضد الإسلام والبلدان الإسلامية أكدته وفضحته قضية فلسطين منذ أوائل هذا القرن حتى اليوم، ويمثل خطر هذا التحالف الثلاثي، ليس فقط في المواجهة الصريحة، بل وأيضا في انعكاساته وضغوطه السياسية والاقتصادية والثقافية على المواقف الداخلية، إذ بقدر ما تزداد هذه الضغوط، تتأثر المواقف والاتجاهات الإسلامية في الداخل، صحيح أن الاستقلال السياسي للبلدان الإسلامية خفف إلى حد من آثار هذه الضغوط، ولكن المصالح قبل كل شيء، هذا بالإضافة إلى أن الأجيال التي بيدها مقاليد الأمور في البلاد الإسلامية نشأت وتربت أغلبيتها في مدرسة غربية إما ضعيفة أو منقطعة.
وأما العراقيل الداخلية، وهي التي تعنينا الآن، فيمكن أن نرجعها إلى العناصر الرئيسة التالية:
1) مناهج التعليم والتربية الحالية.
2) تقلص ظل اللغة العربية.
3) الصراع السياسي والمذهبي.
4) ضعف القدرة على استيعاب الإسلام ككل.
وسنوجز فيما يلي تحليل الدور الذي يلعبه كل واحد من هذه العناصر في عرقلة تكوين المجتمع الإسلامي، وانبعاث الدولة الإسلامية المرجوة:
1- مناهج التربية والتعليم الحالية
لقد برهنت هذه المناهج حتى الآن، وفي جميع البلدان العربية الإسلامية، على أنها عاجزة، ليس فقط عن تكوين المواطن المسلم الصالح، بل وأيضا عن محاربة الأمية فيما يقارب 80% من سكانها، وعن تكوين الأطر العلمية والتقنية وحتى الثقافية العامة، ولم يعد يبذل جهد استثنائي كبير لتغيير هذه المناهج بما يتلاءم مع متطلبات الثورة الصناعية، ويخضع لضرورات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويلبي حاجات السوق، إلى جانب المحافظة على الشخصية القومية، وضمان قدر مشترك كاف من التكوين الديني والخلقي لجميع المواطنين، فإن عملية التغيير الاجتماعي للشعوب العربية الإسلامية لن تتم بالسرعة المطلوبة التي يفرضها التخلف الحالي، والسباق العالمي، والزمن السريع، وبالتالي فإن انبعاث المجتمع الإسلامي الجديد سوف يتأخر بدوره أيضا، ولا يخفى أن قيام هذا المجتمع مرتبط إلى حد كبير بتوفره على القوة التي يفتقدها للدفاع عن وجوده وخاصة ضد التحالف الثلاثي الآنف الذكر، ومن الأهداف الأساسية لنشر التعليم اكتساب هذه القوة، وقد أشار دانييل بيل أستاذ علم الاجتماع بجامعة كولومبيا إلى أن العلاقة بين المعرفة والقوة قد طرأ عليها تغيير كبير في أواسط القرن العشرين، ذلك أن القوة على صورة مهارة تكنولوجية، قد أصبحت من مظاهر القوة، تعمل كرادع لمن يملكون القوة، وبسبب التغيير في طبيعة القوة في المجتمعات العصرية أصبحت المعرفة سببا للوصول إلى القوة.
2- تقلص ظل اللغة العربية
كان العالم الإسلامي قويا ومتماسكا ومندمجا عندما كان يستعمل لغة رسمية وعلمية ودينية واحدة هي اللغة العربية، فلما تصدعت دولة الخلافة الإسلامية، وتغلبت القوميات المحلية، وحلت اللغات الوطنية أو الأجنبية محل اللغة العربية، انقطعت الشرايين الأصلية التي كانت تمد تلك الشعوب بالطاقة الروحية المتجردة مباشرة من معينها الأول الذي هو القرآن العربي، واهتزت علاقات التفاهم والتعاطف والتآخي التي كانت قوية بين مجتمعات الخلافة الإسلامية، وأصبح من الممكن أن تحتل “إسرائيل” مدينة القدس، وتدوس بأقدام جنودها المسجد الأقصى، بل وتشعل فيه النار، دون أن تتحرك عاطفة هذه المجتمعات لمقاومة هذه التحديات، بل ودون أن تعارض بعضها في إنشاء علاقات مع “إسرائيل”! إن انبعاث المجتمع الإسلامي يستلزم دعم ونشر لغة الإسلام الأم بين الشعوب الإسلامية، وتوحيد المفاهيم الدينية وتقوية المشاعر الأخوية عن طريقها.
ومن الغريب أن عدة شخصيات رسمية وغير رسمية في بعض الدول الإسلامية بإفريقيا وآسيا أعلنت عن رغبتها في نشر اللغة العربية في بلادها، وإحلالها محل اللغة الأجنبية، ولكن المؤسف أن تكون الدول العربية عاجزة عن تلبية هذه الرغبة.
3- الصراع السياسي والمذهبي
كان للصراع السياسي والمذهبي في البلدان العربية والإسلامية أثر كبير في عرقلة وبعثرة الحركات الإسلامية، وتأخير قيام مجتمع إسلامي جديد، فبسبب أخطاء سياسية وتنظيمية، وتنافس على النفوذ، واختلاف في المذاهب، تعرضت عدة حركات إسلامية لصدمات هزت كيانها، ولا يزال الصراع على الحكم، والطموح إليه، والمغالاة في التمسك به، من ظواهر المجتمعات المتخلفة بصفة عامة، وسيظل هذا الصراع أحد العوامل الخطيرة في إجهاض الحركات الإسلامية، وامتصاص دعاتها، ومنع البيئة الإسلامية الصالحة من الظهور والنمو والاستقرار.
4- ضعف القدرة على استيعاب الإسلام ككل
يرجع هذا العنصر في أصله إلى القصور العام الملاحظ في أسلوب التعليم التقليدي الإسلامي، وإلى مناهج التعليم التي قللت من وقت وأهمية الحصة المخصصة للتربية الدينية، وقد أدى ذلك إلى ضعف الفكر الديني سواء عند بعض الفقهاء الجامدين المتأخرين، أو عند الذين لم يتح لهم أن يعرفوا عن الإسلام إلا النزر اليسير، وهذا الضعف شكك الأجيال الناشئة، كما شكك الباحثين الأجانب، في قدرة وصلاحية الإسلام لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة، بل شكك أيضا في مدلول العدالة الاجتماعية في الإسلام، وفتح مجالا لنقد وتهجم المستشرقين على بعض الأحكام الدينية التي تطبق في البلاد الإسلامية تطبيقا سيئا لجمود الفكر الديني بها، وضيقه عن استيعاب أحكام الإسلام ككل، ويضيق المجال الآن عن سرد الأمثلة، ولكن أن نعلم أن الأقطار الإسلامية تقيم بعض الأحكام الدينية وتهمل البعض الآخر لأسباب متنوعة، وقد نهى الإسلام عن ذلك بقوله تعالى: “أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ” ذلك لأن هذه النظرة الجزئية لأحكام الإسلام لا يمكن إلا أن تعطل الإسلام كشريعة كاملة، عادلة وخالدة، وإن تعطل بالضرورة انبعاث المجتمع الإسلامي الجديد.
تلك بعض الصعاب الكبرى التي تجعل المجتمعات الإسلامية المعاصرة تعيش في زحمة الأعمال والمواصلات والثقافات واللغات، وتحت ضغط التحالف الثلاثي المخيف، عاجزة عن استيعاب وامتصاص حضارة الإسلام الأولى، فهل يستطيع دعاة الإسلام اليوم، ونحن على عتبة القرن الخامس عشر الهجري، أن يذللوا هذه العقبات طبق تخطيط علمي مدروس، وأن يضعوا للأمة الإسلامية العالمية ميثاقا جديدا لثورتها التحريرية ونهضتها الكبرى؟..
إدريس الكتاني
دعوة الحق
العدد الخامس والسادس
السنة الثالثة عشرة
ربيع الأول 1390 ماي 1970

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *