إن مشكلتنا مع الباطل لا تكمن في ذاته عرضا وجوهرا، ذلك أن الكلفة تكاد تنعدم مع قضية الوقوف عليه وتحديد ماهيته وتجنبه تجنب الشوك بحاسة اللمس فقط، فالأمر لا يحتاج إلى علم أو كبير معرفة، بقدر ما يحتاج إلى فطرة سويّة وبصيرة نقية ليكون أو يُجعل مدموغا زهوقا.
ولكن مشكلتنا مع من يدافعون وينافحون ويسعون من مواقعهم ومنابرهم إلى بث هذا الباطل وترسيخ أركانه وإلباسه ثوب المظلوميةودثار الحقانية، والنفخ في بؤرة رماده الباردة، يرجعون المرة تلو الأخرى عبر أزمنة متصلة إلى من سلف من شواكلهم ليجددوا عهد ذلك النفخ وليعيدوا الفتنة والشبهة إلى سابق ومعهود سخونتها، ولعل الراصد لموضوع دفاعهم و مضمونه لن يجد كبير عناء في تسكين هذه الضجة وركنها في وضعها الحقيقي، إذ ما فتئت هذه الكائنات تنهل في خرجاتها بل ما تزال عالة على تراث وفكر من سبقها من أمثال: سيدخان، ومحمد إقبال، وقاسم أمين، وعلي عبد الرازق، ومحمد أسد، وأمين الخولي، ومحمود الشرقاوي.. وآخرون ممن اتسم إنتاجهم الفكري بجرأة وتجاسر صفيق على الدين ومراوغ في مواضيع محددة لا زلنا إلى يومنا هذا نسمع حولها ركزا وجعجعة شريط مشروخ كقضية الحجاب والتعدد وتقييد الطلاق والاختلاط وحرية الجسد وفروض الإرث…
ولا بد هنا من التنبيه على لطيفة لها وزنها في مقام الاعتبار واجتناب بخس الناس فِعالهم ذلك أن الجيل الأول الذي سجل اسمه ورسمه في هذه المواجهة كان أخطر من جهة أنه حاول نسف هذه الشعائر والدفاع عن البدائل التي يؤمن بها ليس من وجهة علمانية بحثة سافرة؛ وإنما كانت براعة كيده في كونه اسطاع أن يضفي عن مروقه وحيدتهطابع الشرعية الإسلامية، بل أراد في مرحلة متقدمة أن يفهمنا أن ما يدافع عنه من مروق لا يعدو أن يكون فكرا جوهريا لفلسفة الإسلام وتجليا واقعيا لكونيته تبرر أزليةديمومته الشعائرية وصكوكيتهالعقدية المتجددة تجديدا يليقبمظاهر الحياة الحداثية المعاصرة ولو كان هذا التجديد على حساب الأصول الثابتة أو كان على الحقيقة تحريفا للإسلام عن مواضعه وسيلة وغاية وتركة ومقصدا، زاعما أن سيف حربه قد سلّه من غمده لا ليواجه الإسلام كدين؛ فكلا وحاشا وأعوذ بالله من الكفر البواح، وإنما كانت حربه المقدسة وستبقى حامية ضد المدنية الإسلامية وضد فهم حجّر واسعا واحتكر رائجا.
وكم كان هذا الجيل إذا ما قورن بهذه الكسور متمكنا من أدوات المواجهة، مراوغا عند الضرورة، متملّصا من بشاعة التهمة مواريا لسوء النية وخبث الطوية، والحمد لله الذي أذهب كله و بقيت أطلال فكره تأوي إليها الذئاب، وتتبول على جدرانها الكلاب، وتتكسر عليها الخاويات من القلل والقرب التي تحمل الخبث، وبقي بعد ذلك الطوفان الجارفالإسلام شامخا منتصرا ثابتا قويا شعيرة وشريعة وفقها وعقيدة وتاريخا وسيرة.
وإنما جاء الإقرار بهذا أولا وأحببناوآثرنا التوطئةبه ابتداء ليعلم أن ردناأو دفاعنا ليس نصرة لمهزوم أواستشهارالمغمور أو تقوية لواهن ضعيف… وقد علمنا من منزل الكتاب ومرسل الرحمة المهداة اليقين المستشرف بالنصر الموروث في مقابل موعود الحسرة والهزيمة والمغلوبيةلكل من تولى كبره والتي يؤشر عليها قول ربنا جل في علاه: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون}.
فقد كتبت سيدة أوآنسة يبدومن خلال مضمون محبورها أنها رفعت سبابتها معلنة عن انتهائها إلى الطابور الخامس، كتبت مقالا اختارت له كعنوان “تعدد الزوجات ورم خبيث يجب استئصاله” وهو عنوان يمشي ويعضد ما أشرنا إليه في باب الفروق بين ذلك الجيل الأول وهذه الكسور من الخوالف والقواعد المترفة،وإلا فانظر إليها وقد وضعت نفسهافي مواجهة لشعيرة من شعائر الدين منذ البداية أي من عنوان المقال وما كان هذا ديدن الذين سبقوها ودشنوالهذه المواجهة مبكرا، فقد كان الواحد منهم على فجاجته لا ينكر شعائرية التعدد بل يعطف بذكر مزاياه ثم يستدرك مقيّدا لمطلقه، أو مخصصا لعموميته أو محجرا له في بيئته أو متجاوزاتاريخيتهأو مجحفافي الاشتراط له،متعسفا في إبداء مساوئه مبالغا في توضيح تعارضه معالحضارة ومستلزمات المدنيات المعاصرة.
ولقد كان الأجدر بهاأن تعنون مقالها حتى يكون اقرب رُحما بعنوان من قبيل “الزوجة الثانية ورم خبيث يجب استئصاله” سيما وأن المُعدِّد لا يخوض تجربة زواج ثان مع حورية بحر أو خبائث جن أو كائنة هلامية أو زائرة فضائية، وتلك حقيقة لطالما تضرب عنها المناهضات للتعدد صفحا مع أن واقع المناهضة يجعل ويذهب مذهب جعلهن في مواجهة أخوات لهن مطلقات أوأراملأو عوانس وبائراتاوعقيماتأو يتيمات أو لاجئات أو متخلى عنهن وقائمة المعطوفات طويلة الفواصل ممن يدخلن في مريدات العفاف و يبحثن عن الأمومة غير مسافحات ولا متخذات أخدان…
ولقد كان الأحرى بهذه وشواكلها ممن يخضن اليوم حربا لا تضع ولم تضعأوزارها متلفعات بثوب المظلومية رافعات شعار التمرد على شريعة الإسلام، كان الأجدر بهن أن يوجهن قبلةهذه الحرب الضروس إلىمناكب من جعل المرأة حضنا في الحرام وزادا للبغاء والسفاح الغرام، بل جعلها بضاعة تعرض في بعض أرقىشوارع مدنية الرجل الأبيض وراء الواجهات الزجاجية (الفتارين) لكي يشبع المسافحون اللئام شهوة النظر إليها ثم يختارون من صنفها ما يعجبهم ويؤثث لياليهم الحمراء بثمن بخس.
لا نقول أو لا نملك أن نقول أنهمكانوا فيها من الزاهدين ما دامت قد اختارت بل انتصرت لحرية جسدها وحققت بهذا زعم المساواة المدنية المنشودة، لقد استغربت كثيرا لكاتبة المقال وهي تستهل محبورها بمسترسل من الاستفهامات من قبيل “متى ستتحقق المساواة الحقة بين النساء والرجال؟ومتى ستنصف النساء؟ ومتى سيرفع عنها الاستغلال والتبضيع؟ ومتى سيتم احترام كيانهن وإنسانيتهن؟ ومتى سينظر إليهن كـإنسان وليس مجرد أداة للاستهلاك والمتعة القابلة للتجديد وللتغييرإن شاخت وتعبت وهرمت ومرضت؟ لقد ظننتها لأول وهلة لولا مانع فهمي وسبق اطلاعي على العنوان أنها ترثي حال الموءودات من بنات الليل من المومسات المسافحات اللواتي يؤثثن صالات العلب الليلية الفاقعة الظلمة حيث تضيع معاني الإنسانية وتصيرحياة المرأة بكلِّها لمن يدفع أويسطو فيستبيح الظاهر والباطن والجسد والوجدان تلبية لشهوات مسعورة ورغبات حيوانية جامحة لا تبقي ولا تذر.
ظنتها على أقل تقدير تستفهم عن حال ذلك الطابور الضارب في الطول والعرض والمتغوّل الرقم من العوانس حيث تحكي الأرقام الرسمية عن تجاوزه في جغرافيا مملكتنا العزيزة سقف المليون الثامنة، ظننتها على أقرب تقدير تستفهم عن حلّ لمعضلة الطلاق وأرقامه الضخمة التي دأبت الجهات المتخصصة عن مواراة أعداده التي يشهد لها الشارع المغربي و تحكيه الأسرة المغربية في صمت بئيس وأنين خافت يخشى أصحابه رمي تعديلات المدونة بالفشل الذريع و التهافت السريع…
لقد ظننتها وهي تستفهم مستبشعة التغيير والتبديل الذي تتعرض له المرأة،حسبتها تتكلمعن سيرة المخادن وهو يغيِّر عشيقاته كما يغير جوارب حذائه.
لقد ظننتها وهي تستفسر عن هدر إنسانية المرأة، وابتذال حياتها تتكلم عن الاغتصاب الذي يمارس على جسد المرأة أو بالأحرى الفتيات الصغيرات في أروقة وأجنحة الفنادق المصنفة والرياضات المبثوثة في أزقة المدن السياحية العتيقة.
لقد خاب الظن وهي تجيب عن هذه الاستفهامات بما يفيد ويلصق التهمة بشعيرة من شعائر الاسلام، شعيرة جعلها الله من أبواب الإحصان وألزمها ميثاقه الغليظ وشرط لها العدل المستطاع ورتّب على عقدها ومهرها وشهودها النسبة للأبناء والتوريث لهم ولأمِّهم، وقسم لهم من الإنفاق بالسّويّة ما يغني من الجوع ويستر من العري ويأوي من الضياع…
فأين الضير و البأس في هذا حتى يُنعت هذا الصرح الأخلاقي بالورم الخبيث؟؟؟
ولكنها النفوس الموبوءة المُعادية للإسلام أينما أناخت مطاياه، وإننا لنجزم غير مغالينَ ولا مبالغين أن هذا الإسلامالمجحود لو نهى هؤلاء عن فت البعر لَفتوه وقالوا ما نُهينا عن فته الا وفيه مصلحة ومنفعة وامتياز وخير عظيم.
وما فعلوه الا عنادا واستكبارا وعلوا في الأرض بغير حق وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.