التطاول على مقام العلماء -5- د. يوسف بن محمد مازي

نعم صحيح، أن كشف الأهواء والبدع المضلة، ونقد المقالات المخالفة للكتاب والسنة، وتعرية الدعاة إليها وهجرتهم وتحذير الناس منها سنة ماضية على مر الأزمان عند أهل السنة، معتمدين شرطي النقد في العلم وسلامة القصد، لأن العلم بثبوت السنة الشرعية والأدلة اليقينية على المدعى به في مواجهة أهل الهوى والبدعة ودعاة الضلالة والفتنة يجنب الناقد أن يَقْفُو ما ليس له به علم. أما سلامة القصد فالكل يرى أن هذا الواجب من تمام النصح لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدِّينُ النَّصيحةُ” قلنا: لمن؟ قال: “للَّهِ ولكتابِهِ ولرسولِهِ ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتِهم” .
وهذا عين سلامة القصد وشرط قصد وجه الله تعالى، وإلا كان الناقد بمنزلة من يقاتل حمية ورياءً ، وهذا من مدارك الشرك في القصد، لكن أن يلتبس هذا الأصل الإسلامي بظهور ضمير أسود وظاهرة مرضية غريب وصفها؛ عجيب نفوذها؛ هي ما سماها الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله رمز الجراحين، أو مرض التشكيك، وعدم الثقة، أو بعبارة أدق ظاهرة التطاول على العلماء، التي حملها فئام غلاظ من الناس، يعبدون الله على حرف، فألقوا جلباب الحياء وشغلوا به أغرارا، التبس عليهم الأمر فضلوا وأضلوا، فلبس الجميع أثواب الجرح والتعديل وتدثروا شهوة التجريح، ونسج الأحاديث، والتعلق بخيوط الأوهام، فبهذه الوسائل ركبوا ثبج التصنيف للآخرين، للتشهير والتنفير والصد عن سواء السبيل، ومن هذا المنطلق الواهي غمسوا ألسنتهم في ركام من الأوهام والآثام، ثم بسطوها بإصدار الأحكام عليهم والتشكيك فيهم، وخدشهم، وإلصاق التهم بهم، وطمس محاسنهم، والتشهير بهم، وتوزيعهم أشتاتا وعزين في عقائدهم وسلوكهم ودواخل أعمالهم وخلجات قلوبهم وتفسير مقاصدهم ونياتهم.
ففي العقيدة تسمع خارجي، معتزلي، طرقي، إخواني، حركي، مقلد، متعصب، رجعي.
وفي السلوك مداهن مراء من علماء الوضوء والغسل…….
وإن نقبوا في البلاد، وفتشوا عنه العباد، ولم يجدوا عليه أي عثرة أو زلة، تصيدوا له العثرات، وأوجدوا له الزلات، مبنية على شبه واهية، وألفاظ محتملة.
وقد جرت هذه الظاهرة إلى الهلكة في ظاهرة أخرى من كثرة التساؤلات المتجنية مع بسمة خبيثة عن فلان وعلان، والإيغال بالدخول في نيته وقصده، فإذا رأوا شيخا ثنى ركبتيه للدرس ولم يجدوا عليه أي ملحظ دخلوا في نيته، وكيفوا حاله ولسان حاله يقول: أنا ابن من فاعرفوني، ليتقمص شخصية الكبار يترصد الزعامة. وإن ترفقوا وغلبهم الورع قالوا: محترف بالعلم.
بعد هذه التوطئة يمكننا القول إن أسباب هذه الظاهرة التي تستروح من استقراء كلام شيخ الإسلام قبل؛ حسب ما جاء في مجموع الفتاوى؛ يمكن تصنيفها إلى دوائر هي:
– الكبر والرياء.
– الحسد.
– تزكية النفس.
– تصنع قالب الصلاح والورع.
– التحامل على الغير.
– السخرية والاستهزاء.
– السعي في رضى الأصحاب.
إلا أن هذا الحصر من الشيخ قد جاء على وجه الإيجاز والإجمال، والاقتصار على التمثيل استغناء به عن التفصيل.
وقد أحببت أن أدلي بدلوي في هذا الباب بجملة من الأفكار -ولو لم يدرك الضالع شأو الضليع في العلم- أفرزها عندي طول المعالجة لهذه الظاهرة فترة من الزمن، عند أطياف من المجتمع مختلفة، بله استقراء كلام أهل العلم وواقع الناس.
لأقول إن أسباب ظاهرة التطاول على العلماء تعود إلى أسباب كثيرة ودوافع شتى تشمل كل مجالات الحياة البشرية، لكن بالإمكان إجمالها في أسباب معدودة، ولو كنت على يقين أني لا أستطيع تصويرها كلها، ولا يسعني في هذا المقام تفصيلها جميعها، وقد يصدق علي في هذا المقام قول الشاعر:
تكاثرت الضباء على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيد
ولكن قد تكفي الإشارة إذا لم تسعف العبارة كما علم.
ولما كان منهج البحث يقوم على أساس: الاختيار والانتقاء لا الحصر والاستقصاء، فقد اخترت تفصيلها على نحو نرجئه إلى العدد القادم بحول الله تعالى وقوته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *