وقفات مع خالد زهري في تحقيق نسبة الإبانة للأشعري كتبه طارق الحمودي

خالد زهري.. عرفته منافحا عن الفكر التأويلي على طريقة الأشعرية المتأخرين، فيه تعصب وغلو، وإصرار على إقصاء مخالفه، كتب دراسة في العدد الأول من مجلة الإبانة الصادرة عن مركز أبي الحسن الأشعري في تحقيق نسبة كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري، وقد قرأت الدراسة بتأن، فوجدت أنها لا يمكن أن ترقى إلى مستوى الدراسة العلمية، إن هي إلا خواطر تدفعها الإيديولوجيا إلى مزالق العبث والخبط.
أول ما فاجأني في دراسته زعمه أن مؤلف الإبانة يعلن صراحة أنه على مذهب أهل التسليم والتفويض، مستدلا بقول المؤلف: «ونستعينه استعانة من فوض أمره إليه». ولم أجد أمام هذا إلا أن أبتسم محوقلا محسبلا. فكلنا مفوضة في الصفات على قوله!!! لأننا نقول في الدعاء قبل النوم: «.. وفوضت أمري إليك»؛ ما أدري ما أقول في هذا… حسبي الله ونعم الوكيل.
الصواب يا دكتور زهري أن يقال: إن الأشعري صرح بأنه من أهل الحديث والسنة، فإنه قال في مقالات الإسلاميين بعد حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة: «وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب»…
ثم وجدته ينبه على أن صاحب الإبانة يصرح بأنه ينتمي للمدرسة الحنبلية، ثم نقل عبارته في الكتاب، ثم قال: «لكن هل ينتمي أبو الحسن الأشعري حقا إلى المذهب الحنبلي؟».
هنا أيضا تبسمت مستغربا من هذه المغامرات الزهرية.. فإن الأشعري لم يزعم انتسابه للمذهب الحنبلي؛ بل للإمام أحمد بن حنبل نفسه… فالفرق بين النسبتين عظيم وكبير يعرفه أهل الاختصاص من الباحثين؛ وإن كان لابد من شد أذن زهري في هذا شدا عنيفا فلينظر إلى قول الكوثري الذي تولى كبر التشكيك في صحة بعض الكتاب لا كله! في مقدمة تحقيقه لكتاب تبيين كذب المفتري ص:16:
«وفقهاء المذاهب يتجاذبون الأشعري إلى مذاهبهم ويترجمونه في طبقاتهم والحنابلة أحق بذلك؛ حيث يصرِّح الأشعري في مناظراته معهم أنه على مذهب أحمد».
ثم رأيته يزعم أن كتاب الإبانة كتب بروح عدائية، لأنه ورد فيها قول مؤلفها: «ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الأهواء».
قلت: فهلا طعن في صحة نسبة كتاب المقالات له أيضا فإن فيه -نقلا عن أهل الحديث-: «ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة»، وقال في (رسالة إلى أهل الثغر) حاكيا إجماعات أهل الحديث الذين ينتسب لهم: «وأجمعوا على ذم سائر أهل البدع والتبري منهم»!!!
ثم وجدته ينكر قول مؤلف الإبانة: «ولا يجوز أن يقال: إن شيئا من القرآن مخلوق، لأن القرآن بكامله غير مخلوق». واستنكر هذا قائلا: «لا يخفى خطورة هذا القول، وما يفضي إليه من تجسيم»، وقصده نفي أن يكون هذا الكلام لأبي الحسن الأشعري… ولم ينتبه أو قصد أن لا ينبه على أن أبا الحسن الأشعري قال في مقالات الإسلاميين: «ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق». وهذا قول أهل الحديث الذي انتسب إليهم الأشعري.
لا يفوتني التنبيه إلى أن زهري ومن يعتقد اعتقاده يؤمنون بأن العبارة القرآنية، المؤلفة من الكلمات البليغة والسياقات الجميلة ليست من كلام الله، إنما ألفها جبريل أو محمد عليه الصلاة والسلام… وعلى هذا فالله لم يتكلم بالقرآن، ولم يسمع منه جبريل شيئا…!
ويستمر في الخبط… فيزعم أن مؤلف الإبانة في بحث علو الله انتهى إلى أن «الله عز وجل على عرشه فوق السماء»… فيستنكر هذه النتيجة قائلا: «وهذا هو التجسيم عينه الذي لم يأل الأشاعرة جهدا في دحضه».
وهذه مقامرة أخرى من زهري… فما يقول في قوله تعالى: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» طه:5، وما يقول في قوله تعالى: «أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ» الملك: 16..أفي الآيتين تجسيم؟! حسبي الله ونعم الوكيل.
ثم ما يقول في نقل أبي الحسن الأشعري في المقالات عن أهل الحديث قولهم: «وأن الله سبحانه على عرشه كما قال: الرحمن على العرش استوى».
وما يقول في الباقلاني؟ …أليس هو القائل في (التمهيد ص: 260/المكتبة الشرقية): «فإن قالوا: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله! بل هو مستو على العرش، كما أخبر في كتابه فقال: (الرحمن على العرش استوى)… وقال: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض…)»؟!
لا أخفي شكي في كون أمثال زهري يقرؤون لهؤلاء العلماء قراءة جادة وإلا فما معنى هذا؟ اللهم إلا أن يكون تدليسا أو خبطا على أقل تقدير.
حاول زهري نفي نسبة الكتاب إلى الأشعري بدعوى أنه وردت فيه عبارات لا يمكن نسبتها إليه، على افتراض أنه مؤول في الصفات عنده والعجيب أن غيره من مخالفيه وبعض المحايدين استعمل نفس الطريقة… فزعموا أن رسالته في استحسان الخوض في علم الكلام ليست من تأليفه لأنها كما ينقل عنهم أستاذنا الدكتور البختي في مقاله في مجلة الإبانة: «تضمنت اصطلاحات وأحكاما لا يتصور صدورها من أبي الحسن»…!!!! وليست هذه طريقة آمنة مطردة في إثبات أو نفي نسبة الكتب إلى المنسوبة إليهم.
سأختم ببيان تعصب الرجل وفكره الإقصائي.. فإنه ذكر أربعة من المفاسد تنتج عن تصحيح نسبة كتاب الإبانة للأشعري فقال: «4- أنه قد يكون قناة لتمرير فكر، لا يمكن أن يرحب به أي مغربي أصيل لا يبتغي دون أشعريته بدلا»..
فما هذا التعصب؟ وما هذا الإقصاء؟ وما هذا الحقد يا دكتور زهري..؟
ثم يزعم أمثال هؤلاء المتعصبين الموضوعية والتجرد في البحث…!! في المشمش.
أيظن الرجل أنه صاحب هذه الأرض، أو أنه وكيل للمغاربة في تقرير عقائدهم التي لا يجوز غيرها…؟ بل المستفز في هذا أنه جعل المفسدة الثالثة قبله: «أنه يؤدي إلى غرس فكر إقصائي…»…سبحان الله… رمتني بدائها وانسلت.. ولا ينقضي عجبي..
فالظاهر أن الدافع الإيديولوجي النابع من التعصب والحقد على مخالفه هو ما دفعه إلى هذا الخبط، فقد شوش على ذهنه وخانه الحضور العلمي المنهجي فيه -إن كان عنده- أو خان هو الإنصاف العلمي الذي كان ينبغي عليه سلوكه، إن كان يؤمن به، فنتائج مقاله كوارث علمية.
بالله عليكم…أليس في أصحابه رجل رشيد يكف أمثاله من المتعصبين الإقصائيين عن هذا الإقصاء والخبط والتدليس الذي لا يخدم مشاريع النهضة والإصلاح في هذا البلد الحبيب، فلا يمكن إقامة حوار اجتماعي وفكري في هذا الجو الملوث بالتعصب والإقصاء.
وأما ما يخص نسبة الإبانة للأشعري في الجملة، بل وصحة نسبة أكثر ما فيه مما يظنه المعطلة للصفات من التجسيم، فقد وُفِّقت الدكتورة فوقية في مقدمة تحقيقها له في تصحيح النسبة؛ ووافقها على ذلك عدد من المحققين الجادين ممن يحسبون على الأشعرية، لكنهم لم يغامروا بالنفي، إنما اكتفى بعضهم بالقول بأنه من أوائل كتبه…! وحسبي الله ونعم الوكيل.
ليس قصدي من هذا تصحيح النسبة أو تضعيفها، إنما قصدي بيان ضعف المقال وصاحبه؛ وإلا فإن البحث في نسبة كتاب الإبانة للأشعري قد تناوله ثلة من المتخصصين، بين مثبت وناف لكنهم آثروا المنهجية، وسواء أخطأوا أو أصابوا، فاحترام المنهجية البحثية شافع…!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *