إضاءات (ج6) ربيع السملالي

* تجاوبُ الأصدقاء والمتابعين مع البثّ المباشر، الذي أتحدّث فيه عن الكتب، وأجيب فيه عن أسئلتهم، يجعلني أوقن أنّ هذه الأمّة مازالت بخير مهما حاول المنافقون إبعادهم عن الثّقافة عموما والأدب والعلوم الشرعية على وجه الخصوص، وإشغالهم بالغناء والرقص والأفلام والمسلسلات الماجنة… فالثقافة تجعلك تستيقظ من هذا التّخدير الآثم كما تدفعك لتعيش كما تريد لا كما يُراد لك.. لذلك ينبغي أن نكثّف جهودنا للأخذ بيد هؤلاء الشباب المتعطش للمعرفة والقراءة والخروج من شرنقة الضياع.. ويشهد الله أنّ هذه نيتي مذ انتظمت في سلك هذا الفضاء الأزرق.. كنت دوما أقول: لابد أن ننزل الثقافة من برجها العاجي ليتعرف إليها الناس ويسيروا في ركابها إن هم اجتهدوا وحرصوا على ذلك.
والله ولي التوفيق.
——-
* من الإرهاب الفكري الذي تمارسه جماعة المداخلة وبعض السلفية التقليدية تحذيرهم من قراءة الكتب، والتشديد في ذلك، دليلهم مقولة قيلت قديما في حق الكتب التي كانت عبارة عن مخطوطات مكتوبة باليد لا يوجد فيها تنقيط وكانت غير واضحة المعالم لغير المختصين، فكان العلماء ينهون الطلاب المبتدئين عن قراءتها على غير الشيوخ، هذه المقالة تقول:
(من كان شيخه كتابه، فخطؤه أكثر من صوابه).
وهذا حقّ لا مرية فيه لكنه ليس على إطلاقه، قيلت في زمانهم وليس في زماننا حيث الطبعات الفاخرة والتحقيقات النفيسة، والشروحات الكثيرة على المتون.. وهناك مقولة أخرى تفسر هذه المقولة: لا تأخذ علمك عن صُحفي أو مُصْحَفي! والمعنى لا تأخذ العلم على يد قارئ ليس له ارتباط بأهل العلم يشرحون له ما يُستشكل في الكتب، ويكتفي بقراءة الصحف، ويعتمد على نفسه في دراسة القرآن دون الرجوع إلى شيخ متقن يلقنه إياه.. وهذا كله قيل في ذلك الزمان حين اختلط الحابل بالنابل.. ولا يمكن إسقاطه على زماننا إلا إذا كان الطالب أبا جهل في بداية الطريق لا يفرق بين أصل وفرع..
وَمِمَّا يؤيد ما ذهبنا إليه ما قاله العلاَّمة الشيخ ابن عثيمين في كتاب (العلم) حين ذكر هذه المقولة:
هذا ليس صحيحا على إطلاقه، ولا فاسدا على إطلاقه، أما الإنسان الذي يأخذ العلم من أي كتاب يراه؛ فلا شك أنه يخطئ كثيراً، وأما الذي يعتمد في تعلمه على كتب من رجال معروفين بالثقة والأمانة والعلم؛ فإن هذا لا يكثر خطؤه، بل قد يكون مصيباً في أكثر ما يقول!
——-
* كنت أزمعت على شراء كتاب (هذه هي الأغلال) للملحد عبد الله القصيمي (الذي كان عالما سلفيا وارتد وتزندق)، وكنت واثقًا من نفسي أنه قد لا يؤثّر عليّ بأفكاره الإلحادية، لكن تذكرت محمد عبد الوهاب رفيقي الذي كان وكان وكان فأصبح وأصبح وأصبح!!… فأحجمت وقلبت للكتاب ظهر المجن ولساني يردد: اللهم إيمانا كإيمان العجائز!
——-

* تفسير السعدي المعروف بتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان كتاب مفيد مبارك، حلو العبارة، سهل الإشارة، لا تجد فيه بدعة ولا قَذَارة، صاحبه صحيح الاعتقاد، لا يحيد عن منهج الرعيل الأول قِيد شعرة.. تجنب في كتابه هرطقة المهرطقين، وجدل أهل الكلام الغالين، وإسرائيليات الوضاعين، فكان نسيج وحده، وفريد عصره في هذا الباب، رحمه الله رحمة واسعة ورضي عنه.. وقد شوهت طباعته كثير من حمالات الحطب فوضعوه في مجلد ضخم رديء، بخط صغير يجعلك تعرض عن قراءته إعراضا؛ وهو في الأصل خمس مجلدات وقد اقتنيته من سنوات!
——-
* تركتُ شيخي نهار أمس يرتاح ساعة بعد وجبة الغداء، تركته ليقيل فوق سرير المكتبة، وبعد أن أخذ حظّه من ذلك، جئته بوَضوئه، فقال لي: حين كنت أقرأ لك وأنت تتحدّث عن مكتبتك وضخامتها، كنت أعتقدك مبالغًا، حتى رأيت اليوم بعيني ما لا يدع مجالا للشكّ، والله ما عرف النّوم سبيلا إلى عيني بسبب هذه الكتب التي تضعها في كلّ مكان، فلا أستطيع أن أمدّ رجلي، ولا أن أتقلب ذات اليمين وذات الشمال، فقلت له مازحًا: أما علمت أنّ أبا فِهر (محمود شاكر) قد قال عنه عبد القدوس الأنصاري حين رأى مكتبته: إنّني أعلمُ أنّ النّاس تكون عندهم مكتبة في بيت، أمّا هذا فهو بيت في مكتبة!
ونحن إن شاء الله على دربه سائرون!
وأنت يا شيخ من يحبّ الجلوس في المكتبة وتعرض إعراضا عن الجلوس في غيرها من هذه الغُرف الواسعة في الدّار، فإيّاك أن تهجوني بقول الأخطل:
قوم إذا استنبح الأضيافُ كلبَهم….قالوا لأمّهم بولي على النّار
فتمسك البول بخلا أن تجود به….فـما تـبول لهـم إلاّ بمقدار!
فمسّد الشيخ لحيته المهملة، ورشقني بابتسامة ذات معنى، وهو يقول: لقد أوتيتَ لسانا سليطا، يا فتى، ومن ذا الذي يستطيع أن يهجوك وأنت الذي دوما تردّد قول الشاعر:
فوا عجبًا حتّى كُليب تسبّني….كأنّ أبانا نهشل أو مجاشعُ!
——-
* قصّة مجنون ليلى التي يتداولها بعض الجهلة لا أصل لها، فهي من اختلاق بعض الظّرفاء الكذّابين.. لكن رأيت بعض الخبثاء من العلمانيين قد استغلوها للطعن في المصلين كما فعلت حمّالة الحطب (سناء العاجي)!.. والقصة كما يلي:
زعموا أنّ قيسًا بن الملوح رأى كلبَ ليلى فأسرع خلفه حتى يدله على مكان محبوبته، فمر في طريقه بقوم يصلون؛ ولما رجع مر بهم فسألوه: قد مررت بنا ونحن نصلي فلمَ لم تصل معنا؟ قال: والله ما رأيتكم، ووالله لو كنتم تحبون الله كما أحب ليلى لما رأيتموني. كنتم بين يدي الله ورأيتموني، وأنا بين يدي كلبها ولم أركم!
أعيدوا صلاتكم يرحمكم الله.
——-
* الأدباء والشعراء الذين يسخرون من الدّين ويستخفّون بتعاليم الإسلام، ويسيئون الأدب مع الله ويُحرّضون على الفواحش ما ظهر منها وما بطن في كتاباتهم وأشعارهم= يكونون في الغالب ضحية للتّكوين الأوّلي، وللكتب السّامّة التي طالعوها في بداية دراستهم.. لذلك يجب على المسلم أن يكون حذرًا في القراءة لكلّ من هبّ ودبّ، وإن كان جاهلا فليسأل عن الكتب والأدباء خبيرًا.. قبل أن يصير بوقًا للكفّار والمرتدّين والزّنادقة وهو لا يدري!
——-
* يتحامل الوزير القِفْطِي كثيرًا على بعض معاصريه، ويحط من قدرهم، ويمعن في ثلبهم ووصفهم بالجهل تارة والادّعاء وقلة الفهم تارة أخرى، وقد تناول رجلا من معاصريه بكل نقيصة يقال له: عبد اللطيف بن يوسف أبو سعد البغدادي!.. وقد أنصفه ابن النجار في ذيله على تاريخ بغداد ووصفه بكل علم وفن! (فتأمّل!).. وصدق من قال: المعاصرة حجاب!
——-
* زعم الباحثُ محمد بن عبد الله آل رشيد في كتابه (الإعلام بتصحيح الأعلام ص:205) نقلا عن الدكتور عبد الرحمن بن إبراهيم الهليل، أنّ شرح ديوان المتنبي لأبي البقاء العُكبري ليس من تأليفه، وإنّما منسوب له، والقاعدة تقول: المثبت مقدّم على النّافي، وآل الرّشيد ساق لنا سطرين ومضى ولم يذكر هذا البحث للدكتور الهليل الذي نقل عنه، ولم يشفِ لنا غليلاً، فكيف سنقتنع بقوله؟ فقط اكتفَى بالعنوان: (التبيان) لا للعكبري ولا لابن عدلان! (فتأمل)!
وقد وجدت اليوم الوزير القِفْطي قد أثبت هذا الشرح في ترجمة العُكبري في كتابه (إنباه الرّواة ج2 ص117) وقال العلاّمة أبو الفضل إبراهيم محقّق الكتاب في الهامش:
اسمه (التبيان في شرح الدّيوان) طُبع في كلكتة بالهند سنة 1261، وطُبع في بولاق سنة 1287 والمطبعة الشرفية بمصر سنة 1308، ثمّ بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1355، بتحقيق الأساتذة مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي.
قال ربيع: وهذه النّسخة الأخيرة هي التي في مكتبتي في أربعة أجزاء.
——-
* أقترح على بعض الباحثين هذا العنوان (القِفْطِي ناقدًا) فقد وقفت في كتابه (إنباه الرواة على أنباه النحاة) على الكثير من تعليقاته النقدية النفيسة تستحق أن تجمع وتدرس بين دفتي كتاب.. وهذا تعليق له على سبيل المثال:
قال في ترجمة زيد بن الحسن الكندي(ج2 ص12):
وعاد إلى دمشق واستوطنها، وقصده الناس، ورووْا عنه، وكان ليّنا في الرواية، معجبًا بنفسه فيما يذكره ويرويه ويقوله، وإذا نُوظر جَبَّه بالقبيح، واستطال بغير الحقيقة.
ولم يكن موفّقَ القلم فيما يسطّره، وقد رأيت له أشياء قد ذكرها لا تخلو من برد في القول وفساد في المعنى واستعجال فيما يخبر به… واشتهر عنه أنه لم يكن صحيح العقيدة. والله أعلم!
——-
* انتهيت من قراءة المجلدة الأولى من إنباه الرّواة، واستخرجت منها عشر صفحات تخدم الكتاب الذي أنا عاكف على تأليفه!
يا غلام مِل بِنَا إلى بعض القهوات خارج المدينة، التي تكون خالية من النساء لأحتسي شايا بعيدًا عن أعين البشر، ولنأخذ حظّنا من الرّاحة قبل خوض غمار المجلدة الثانية.. ولا تنس أن تحمل معك بعض الفاكهة والمياه العذبة وديوان الأعشى، فقد يدركنا الليل هناك ويحلو السّهر مع القصيدة التي يقول في مطلعها:
ودّع هريرةَ إنّ الرّكبَ مرتحل…وهل تطيقُ وداعًا أيها الرجلُ!
——-
* من أدب الكاتب أن يشارك القرّاء آراءه ويتحدّث بلسانهم فيقول مثلا: ومما يدل على قولنا، أو مما يؤيد مذهبنا، أو قلنا في هذه المسألة كيت وكيت، وغير ذلك من هذه العبارات التي لا تدل على تضخم في (الأنا) أو الإصابة بمرض نُون الجماعة كما قد يتوهم بعض من لا يعرف أساليب العرب في الخطاب!
——-
* حين لا يكون للإنسان وِردٌ يوميٌ من القراءة قد يتعفن عقُله وتُعَشِّش فيه الرّتيلاء!
هذا ما قال لي جدي في بعض الأمسيات، حين كنت أقرأ عليه كتاب رياض الصالحين في قرية نائية بين أشجار التّين والبرتقال.. وشقائق النّعمان!
——-
* نحن من أُمَّة تعتزّ بتراثها الذي لا تجد فيه إلا أمثال هذه الكلمات: قرأ، وروى، وأملى، وسمع، وكتب، وشرح، ورحل، وحجّ، وأخذ، وردّ، ونقل، وحدّث، وجمع من الكتب كذا وكذا، وهلمّ علمًا وأدبا وفكرا!
——-
* رواية موت صغير للروائي السعودي محمد حسن علوان، تفوز بجائزة “بوكر” لهذه السنة.. وسأموت وفي النفس شيء من حتى!… رحم الله سيبويه!
——-
* كنتُ نائمًا في المكتبة فسقط عليّ الجاحظ‬… عفوًا سقط عليّ كتاب البخلاء‬ للجاحظ.. ففزعت وتألمت وتأمّلت ودعوت له بالرحمة والمغفرة‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.
——-
* مكتبتي لا تكون في أحسن حالاتها إلا إذا شرعت أكتب بحثًا أو مقالة!
——-
* حرفةُ الأدب لا تتناسبُ مع رجل واجمٍ على الدّوام، يسترُ ابتسامته كما يسترُ أحدُنا سيئاتِه!

https://www.facebook.com/rabia.essamlali

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *