تأملات في العقيدة والمنهاج تميز كل من العلم والعمل في الإسلام -الحلقة الثالثة- العلامة الدكتور لحسن وجاج

..من العلوم التي حذر العلماء من الانصراف الكلي إليها مع ترك الأهم منها: علم النحو واللغة؛ وفي ذلك يقول ابن الجوزي: “قد لبّس إبليس على جمهور أهل اللغة والأدب، فشغلهم بعلوم النحو واللغة عن المهمات اللازمة التي هي فرض عين وعن معرفة ما يلزمهم عرفانه من العبادات وما هو أولى بهم من آداب النفوس وصلاح القلوب وبما هو أفضل من علوم التفسير والحديث والفقه، فأذهبوا الزمان كله في علوم لا تراد لنفسها بل لغيرها، فإن الإنسان إذا فهم الكلمة فينبغي أن يترقى إلى العمل بها إذ هي مرادة لغيرها، فترى الإنسان منهم لا يكاد يعرف من آداب الشريعة إلا القليل ولا من الفقه ولا يلتفت إلى تزكية نفسه وصلاح قلبه، ومع هذا ففيهم كِبر عظيم، وقد خيل لهم إبليس أنهم من علماء الإسلام لأن النحو واللغة من علوم الإسلام، وبها يعرف معنى القرآن العزيز، ولعمري أن هذا لا ينكر، ولكن معرفة ما يلزم من النحو لإصلاح اللسان وما يحتاج إليه من اللغة في تفسير القرآن والحديث أمر قريب، وهو أمر لازم، وما عدا ذلك ففضل لا يحتاج إليه، وإنفاق الزمان في تحصيل هذا الفاضل وليس بمهم مع ترك المهم غلط، وإيثاره على ما هو أنفع وأعلى رتبة كالفقه والحديث غبن، ولو اتسع العمر لمعرفة الكل كان حسنا، ولكن العمر قصير فينبغي إيثار الأهم” اهـ.

3- أمثلة من تنكر أهل العلوم والفنون في الإسلام لعلم السنة
سبق في كلام ابن عبد البر أن العلم الأعلى عند جميع أهل الديانات وأهل الإسلام هو علم الدين الذي لا يجوز لأحد الكلام بغير ما أوّلَه الله في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه، وسبق في كلامه أيضا أن الطريق الموصل إلى ذلك هو معرفة الرسول المؤدي عن الله المبيِّن لمراده، ومعرفةُ أصحابه الذين أدوا ذلك عنه ومعرفة الرجال الذين حملوا ذلك وطبقاتهم إلى زمانك، ومعنى ذلك أن أصل العلوم في الإسلام هو علم السنة وأن علم السنة يعني معرفة أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته، وأن الطريق الوحيد لمعرفة ذلك هو علم الإسناد.
ومع ذلك فقد تنكر أهل العلوم والفنون في الإسلام لهذا العلم وحاربوا حملته بجميع طوائفهم إلا من رحم ربك، فطوائف الشيعة حاربته بالوضع والكذب، وطوائف أهل الكلام حاربوه بالتأويل مرة وباشتراط التواتر مرة، وخَلَف أهل السنة أنفسهم حاربوه بالنسيان مرة وبالإعراض مرات، وهذه أمثلة تدل على محاربة خلف أهل السنة للحديث قديما وحديثا؛ منها قول ابن حزم:
مناي من الدنيا علوم أبثها *** وأنشرها في كل باد وحاضر
دعاء إلى القرآن والسنة التي *** تناسى رجال ذكرها في المحاضر
ومن تلك الأمثلة قول الداني وهو يشكو مما يشكو منه ابن حزم في الأندلس:
فقلت اذكروا حال الزمان وما *** يجري على كل من يعزى إلى الأدب
لا شيء أبلغ من ذل يجرعه *** أهل الخساسة أهل الدين والحسب
القائمين بما جاء الرسول به *** والمبغضين لأهل الزيغ والريب
ومن تلك الأمثلة قول محمد بن علي الصوري شيخ الخطيب البغدادي وهو يشكو ما عليه أهل العلم في زمانه:
قل لمن عاند الحديث وأضحى *** عائبا أهله ومن يدعيه
أبعلم تقول هذا أبن لي *** أم بجهل فالجهل خلق السفيه
أيعاب الذين قد حفظوا الد *** ين من الترهات والتمويه
وإلى قولهم وما قد رووه *** راجع كل عالم وفقيه
ومن الأمثلة على محاربة سند الحديث قديما؛ قول بكر بن حماد البهارتي:
ولابن معين في الرجال مقالة *** سيسأل عنها والمليك شهيد
فإن يك حقا قوله فهو غيبة *** وإن يك زورا فالقصاص شهيد
وكل شياطين العباد ضعيفة *** وشيطان أصحاب الحديث مريد
ومن الأمثلة التي تدل على محاربة الحديث وأهله حديثا؛ قول المعلمي في الشيخ زاهد الكوثري:
“الأستاذ من أهل الرأي ويظهر أنه من غلاة المقلدين في فروع الفقه، ومن مقلدي المتكلمين ومن المجارين لكتاب العصر إلى حد ما، وكل واحدة من هذه الأربع تقتضي قلة مبالاة بالمرويات وقدرة على التمحل في ردها وجرأة على مخالفتها واتهام رواتها”اهـ

4 شواهد على اعتناء أهل الحديث بعلوم السنة والدفاع عنها
إذا كان قدر الله قد قضى بجعل كثير من المسلمين يتنكرون للعلم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قضى قدر الله أيضا أن تبقى هناك طائفة تدافع عن هذا العلم مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك”، والشواهد التي اخترتها لكم على ذلك لا تمثل إلا شيئا قليلا جدا من دفاع أهل الحديث عن علوم السنة واعتنائهم بها؛ ومن ذلك قول المعلمي في بيان اعتناء المحدثين بالسنة: “من مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل عنها والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها” اهـ.
ومن الشواهد قول ابن حزم في بيان حفظ الله للسنة من التغيير: “ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل؛ فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين وكل ما تكفل الله تعالى بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه، إذ لو جاز غير ذلك لكان قول الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} كذبا ووعدا مخلفا، وهذا لا يقوله مسلم” اهـ.
قال المعلمي: “والذكر يتناول السنة بمعناه وإن لم يتناولها بلفظه، بل يتناول العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق”.
ومن الشواهد على أصالة علم السنة قول بعضهم:
أيها المغتدى لتطلب علما *** كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح حكما *** ثم أغفلت أصل أصل الأصول
ومن الشواهد على دفاع المحدثين عن السنة قول أبي الأصبع الأشبيلي وهو يرد على بكر بن حماد:
تعرضت يا بكر بن حماد خطة *** بأمثالها في الناس شاب وليد
ولابن معين في الذي قال أسوة *** ورأي مصيب للصواب سديد
ولو لم يقم أهل الحديث بديننا *** فمن كان يروي علمه ويفيد
هم ورثوا علم النبوة واحتووا *** من الفضل ما عنه الأنام رقود
وهم كمصابيح الدجى يهتدى بهم *** وما لهم بعد الممات خمود
ومن الشواهد على أصالة علم الكتاب والسنة قول ابن عبد البر: “واعلم يا أخي أن السنة والقرآن هما أصل الرأي، والعيار عليه، وليس الرأي بالعيار على السنة، بل السنة عيار عليه ومن جهل الأصل لم يصلح الفرع أبدا” اهـ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *