الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعدُ:
فإن للشيطان مداخلَ عجيبة ينفذ بها إلى بواطن النفس البشرية، ليصرفها عن حق، أو يرميها في حضن باطل.
وهو -عياذا بالله منه- منذ أن تبوأ مقعد عمل الغواية والإضلال، الذي وُكل به، يعد لكل نوع من النفوس ما يلائمها من أسباب الإعراض عن الحق، فيعد للصالحين غير ما يعد للطالحين، ويُغوي أهل العلم بغير ما يغوي به أهل الجهل، وهلم جرا.
إنها معركة قديمة، جمع لها إبليس جراميزه منذ زمن بعيد، ثم هو بعدُ ماض في مهمته لا يغره نصر يحصله، ولا تُكرثه هزيمة يتردى بها. أما خصومه في هذه المعركة، فما بين معد للأمر عدته، وجامع له أهبته؛ وبين غافل عما يراد به، مترد في الأحابيل التي ينصبها له عدوه.
ولستُ أعرف في الشراك التي ينصبها إبليس لأهل العلم، أشد نكاية فيهم، وأعظم أثرا في طبائع نفوسهم، من الغرور الذي يزينه لهم، فينتفخون به انتفاخ الكرة التي يلعب بها الصبي، لا تزال معه حالَ انتفاخها في محنة من الضرب بين الأرجل العابثة.
وأي محنة هي أعظم من محنة ذاك المنتفخ بغير ما ينفع، المزهو بغير ما يملك، المتشبع بما لم يعط، حين يتقدم الصفوف، ويتصدر المجالس، والعيون محدقة في سحنته البهية، والأسماع مصيخة إلى ما سيفوه به من الكلمات الشجية، والقلوب متعلقة بما سيأتي به من البراهين الجلية؛ وهو جالس أمام القوم، يخترع الكلام اختراعا، ويبتدع الأفكار ابتداعا، ويصول في حمى العلم ويجول، وهو يعلم في قرارة نفسه أنه أفرغ من فراغ، وأذل من فقع قرقرة بقاع !
هذه محنته ..
أما محنة السامعين -إن كانوا ممن بقي لهم بقية من فهم أو صبابة من فطنة- فكمحنة المسجون حين يلقى به في زنزانة مظلمة، فهو ينتظر موعد الخروج بأقصى ما يكون من الشوق!
***
وآفة الغرور لا تقوم في النفس إلا على ركن من الجهل ركين. فالعلم ينفي الغرور كما ينفي الكير خبث الحديد. وقد قيل قديما: العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول: تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني: تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث: علم أنه ما يعلم.
وقد أحسن من قال:
العلم حرب للفتى المتعالي = كالسيلِ حرب للمكان العالي
فالعلم والكبر ندّان لا يجتمعان، وما دخل العلم قلبا إلا خرج منه من الكبر بمقدار ما دخل من العلم.
والسبب في التعارض بين هذين واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار. فإن العلم يُري صاحبه من أحوال العلماء السابقين، وسعة دائرة علومهم، وعجيب دقة فهومهم، ما يجعله ينزل من برجه الذي كان يتأهب للصعود عليه، ويحثه على ملازمة منزلته التي تلائمه حقا، وحفظ منزلة هؤلاء العلماء المتقدمين، كما يكون البقل في أصول النخل الطوال.
وإن العلم أيضا ليتشعب بصاحبه، فلا يكاد يتقن فرعا حتى يعرض له غيره، ولا يكاد يفهم أصلا حتى يواجهه سواه. ولا يزال متنقلا في حياض العلم، من ساقية إلى نهر، ومن نهر إلى بحر، حتى يوقن أن إدراك الغاية القصوى من هذا العلم الذي هو بصدده، حلم لا سبيل إليه؛ وإنما قصاراه السير في الطريق، وجمع ما أمكنه من الثمار.
فكيف يغتر بعد ذلك من خاض هذا الخضم؟
وما أشبه حال المتعلم بحال المغامر الذي يتلمس سبيله في وسط غابة كثيرة الأشجار، ملتفة النباتات، وبيده مدية كبيرة يفتح بها الطريق أمامه. لكنه لا يقطع غصنا إلا ظهرت أمامه أغصان لا تتناهى كثرة، فمتى يقول إنه وصل إلى غايته؟ !
***
والغرور يحمل صاحبه على وقف مسيرة التعلم، والاكتفاء بما حصله من العلم – ولو كان قليلا.
وإذا كان -بحسب ما يدعيه- قد وصل إلى هذه المرتبة العلمية المنيفة، وتسنم هذه المكانة الفكرية الباذخة، ففيم يجهد نفسه في التحصيل العلمي، الذي لا يليق بزعمه إلا بالمبتدئين؟
وكم تضيع على هؤلاء المغرورين من العلوم والمعارف!
وأعرف منهم من لا يفتح الكتاب إلا لماما، ولا يثني ركبته في مجلس علم مطلقا؛ وهو بعدُ دائم التنقل من محاضرة إلى ندوة، ومن برنامج إذاعي إلى لقاء بقناة تلفزية، يجتر الكلام نفسه، ويتلفظ معادا من القول مكرورا.
فهي دائرة مغلقة إذن: جهل يجر إلى غرور، وغرور يجر إلى جهل !
ثم إن الغرور يقطع على صاحبه طريق الأوبة إلى الحق، ويهون عليه الاستمرار في الباطل، مع علمه بأنه باطل. أما المتواضع الذي يعرف قدر نفسه، فأسهل شيء عليه أن يقول: أخطأتُ في كذا، وأنا عنه راجع من ساعتي هذه !
***
والغرور عند المنتسبين إلى العلم ليس من مبتدعات هذا العصر الذي نحن فيه، فقد كان موجودا -على قلة- عند بعض المتقدمين. ودليل وجوده كثرة إنكار العلماء الربانيين على أهله، وما كانوا لينكروا أمرا لا وجود له في الواقع.
لكن ما أتى هذا العصر حتى اتسع الخرق على الراقع، فازداد الغرور بمقدار ما نقص من العلم.
وأكثر ما ضخم هذه الظاهرة في عصرنا، تلك الشهادات الأكاديمية التي تمجّها الجامعات الإسلامية (الدكتوراه فما دونها). وهي شهادات تحمل -في الغالب- على كثير من الكبر، وتصرف عن كثير من التعلم.
وصاحب الشهادة الجامعية -إن كان لم يأخذ علمَه إلا من الجامعة- من أسرع الناس تساقطا في مهاوي الغرور، لا ينقذه منه إلا أن يبادر إلى نهل العلم من مصادره الأصيلة. لكنه إن لم يفعل، غلبه ما شحن به ذهنه خلال دراسته الجامعية من السطحية التي تلامس عناوين المسائل، ولا تخوض في غمار التفصيلات العلمية الدقيقة، التي تنمي الملكة العلمية الراسخة.
والنتيجة الحتمية لهذه السطحية في التحمل، أن الطالب -الذي سرعان ما صار أستاذا يشار إليه بالبنان- يتعامل مع كل المسائل العلمية التي تواجهه بسطحية في الأداء أيضا.
فإن أشكل عليه أمر فزع إلى المقاصد الكبرى، والمصالح العامة، وإلى نتف من هنا وهناك، وشذرات عامة يجمّعها من كل حدب وصوب، وينثرها كيفما اتفق.
***
وصاحبنا المغرور له في كل فن حيلة يجعلها شعارا لكلامه ودثارا، فتغنيه عن كثير من العلم، وتظهره -عند الأغمار والعوام- في صورة المحقق المتمكن !
فإذا أعياه تفسير آية من كتاب الله تعالى، لم يعسر عليه أن يقول: يبدو لي أن المعنى كذا. فإن ظهر أنه خالف إجماع المفسرين قال بلهجة الواثق: كلام المفسرين ليس وحيا منزلا، وقد جدّت أمور وأوضاع، فلنا أن نقول كما قالوا، ونرى كما رأوا!
وإذا خالف هواه حديثا من أحاديث البشير النذير صلى الله عليه وسلم، فزع إلى تضعيفه بكلام تستحي العنكبوت أن تنسج مثله. ثم احتمى ببعض الدعاوى العريضة التي تجعل له مخرجا من الدهليز الذي دلف إليه.
وإذا اعترضته مسألة فقهية أو فتوى شرعية، أغناه عن تكلّف بحثها تفصيلا، الاتكاء على مقاصد الشريعة كما يفهمها، ونظرية المصالح والمفاسد كما يتصورها. وإن عصمه الله بشيء من الورع، تفكر قليلا، ثم قال بلهجة من أحاط بالمسألة من كل جوانبها: (في المسألة خلاف!).
وإذا أشكلت عليه دقائق علم النحو والصرف، قال: (ما لنا وللخليل وسيبويه؟ ! فلنرجع إلى الظواهر اللغوية الأصلية لنجدد هذا العلم..). فكأن نحاة العربية كانوا يرجعون في تأصيل قواعدهم إلى دراسة ظواهر الألمانية أو الروسية!
وإذا صعب عليه فهم مسألة بلاغية، قال: (اتركونا من عجمة المتأخرين، وأرجعونا إلى فصاحة الأوائل). ثم ما هو من أهل الأولى ولا الثانية!
وإذا عسر عليه شيء من علم العروض والقوافي، قال: (ما أثقله من علم ! وما أسمجها من مصطلحات! علينا تجديد هذا الفن، وإلغاء تعقيدات الخليل ومن شايعه..).
وهكذا قل في سائر الفنون: دعاوى ووصايا تخفي جهلا وكبرا.
***
هكذا حال كثير من هؤلاء المتكبرين المنتسبين إلى العلوم الشرعية.
دخلوا الميدان من غير بابه، فاختلطت عليهم الأمور، وصاروا يخبطون في العلم خبط عشواء. وقصارى جهد الواحد منهم أن يقول:
- لست ملزما بقول الإمام الفلاني..
- ولي عقل حر، يمكنني من أن آخذ ما أشاء، وأدع ما أشاء..
- ولا تحجر على تفكيري، فلست من المقلدين.
وإذا ذكر أمامه السلف والأئمة المتقدمون قال:
(هم رجال.. ونحن رجال).
ونحن نقول:
أما الأولى، فلا شك في صحتها..
وأما الثانية، فما أبعدها عن الصواب.