وهكذا يضيع فقه حكم شرعي بين غلاة العلمانيين الذين يدعون إلى حذف نصوص الجهاد، وغلاة المتدينين الذين يتذرعون بها في أفعالهم المنكرة، وهذه نتيجة حتمية لتغييب دور العلماء في التعليم والدعوة.
التطرف: نبتة سوء نبتت وترعرعت في أوحال واقع مظلم.
زرع بذورها أناس عقُّوا العلماء، وجارَوا السفهاء، ولم يلتزموا السَّننَ القويم والصراط المستقيم للتغيير والإصلاح.
أصاغر قلدهم من لا يعرف، وأُعجب بهم من لا يفقه، واستجاب لنعيقهم من جهل جهلا مركبا.
يعزفون على أوتار الجهل، ويركبون ثبج العواطف.
فأفسدوا من حيث ظنوا أنهم يصلحون، وهدّموا ظانين أنهم يبنون:
رام نفعا فأضر من غير قصد ومن البِرِّ ما يكون عقوقا
لقد سار علماء الأمة الأبرار، حماة الملة وحملة الدين في درب التغيير والإصلاح؛ على خطى حثيثة، وخطوات رشيدة، وإن كانت بطيئة المفعول، لكنها تشق طريقا لا تغطيه الرمال، ولا تشقه الزلازل.
ووقف أعداء الإسلام مدهوشين من آثار دعوتهم، وثمار جهادهم المشروع، التي تمكنت من اختراق صفوفهم في معركة دعائية إغرائية ملك فيها الأعداء أعتى الأسلحة وأقوى العتاد وأكبر العدد، سلاحهم الإعلام، وخطتهم الإغراء والإغواء، وقادتهم الميدانيون: منافقو الأمة وخونة دينها.
ومع ذلك فشلوا وخابوا، وارتفعت راية السنة والتوحيد على أنقاض غير قليل من تلك المعارك، فأنذرهم فشلهم بقرب أفول نجمهم، وذهاب ريح كيدهم، ورأوا أن حرب النفاق، والتخريب من الداخل لم تعد تجدي، ولن تؤدي في المستقبل دورها كما كانت.
فانتقلوا إلى الحرب المعلنة التي كشفوا فيها القناع، ورفعوا فيها اللثام؛ عن أنيابٍ سالت بِرِيق البغضاء، وأعيُن احمرّت بدماء الحقد والكراهية…
لكنهم كانوا أعقل من الأولين في التخطيط؛ حيث وضعوا ثوبا خفيفا وارتَدَوْا لباسا رقيقا، لا يخفي ما تحته إلا عن الأعشى، ولا يحجب ما وراءه إلا عن ضعيف البصر؛ الذي يرى الواحد فوق دابة عشرة، ويحسب وحيد القرن بقرة!
فأوعزوا من قل علمه وضعف فقهه للبدئ بسفك الدماء والسطو على البلاد والعباد، ليتذرعوا بذلك لبطش بطشتهم، وإرواء غليلهم، وقام العلماء بواجب التحذير ونهوا المتحمسين الذين يتحركون بعواطفهم عن ردود الأفعال الطائشة..، لكن غرهم الغَرور؛ فعصوا علماءهم ورموا بعضهم بالعمالة وبعضهم بجهل فقه الواقع وقصور العلم، وأقدموا على أفعالهم المنكرة، وكانوا بذلك كلاعب الشطرنج الغبي الذي يأكل بيدقا ويضحي من أجله بالملك!
هدموا منشآت ومكنوا لاحتلال دول، وفجروا عشرات السيارات وتسببوا في قتل آلاف الأرواح.
فسالت أودية بقدرها من الدماء، وأخرى بقدرها من المداد لتشويه صورة الإسلام وقلب حقائقه.
وثالثة الأثافي؛ تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي!
الذي تمخض بدوره فوضع جنين فكره المنكوس في منطقةٍ من مدينة (القبايل) الجزائرية، ثم أصدر بيانا مفاده أن “المجاهدين الأبطال! تمكنوا صباح الثلاثاء من تنفيذ غزوة مباركة! بتفجير ست سيارات مفخخة، استهدفوا فيها بتوقيت متزامن مراكز عدة للشرطة المرتدة! والدرك الوثني! في منطقة القبائل”.
وقديما قيل: الجنون فنون!
وهكذا يضيع فقه حكم شرعي بين غلاة العلمانيين الذين يدعون إلى حذف نصوص الجهاد، وغلاة المتدينين الذين يتذرعون بها في أفعالهم المنكرة، وهذه نتيجة حتمية لتغييب دور العلماء في التعليم والدعوة.
قالت الأخبار: (وقعت تفجيرات ولاية (بومرداس) في بلْدتي (سي مصطفى) و(سوق الحد) ومدينة (بومرداس)، في المنطقة الواقعة بين منطقة القبائل.
وسقط العدد الأكبر من الضحايا في التفجير الذي استهدف مركز الدرك الوطني في (سي مصطفى)، وهو مبنى من طابقين يعمل فيه العشرات، وأصيب بأضرار جسيمة.
أما في ولاية (تيزي وزو) المجاورة، فضربت التفجيرات منطقة صناعية قريبة من مدينة (تيزي وزو)، وقريتي (مقلع) و(الولة أومالو) القريبتين من قمة جبل (جرجرة)).
..لو كان حجم المقالة يسمح لأوردت جملة من النصوص لبيان ضلال هذا الفعل، لكن حسبي أن أذكر مثالين منها؛ أحدهما من السيرة النبوية، والآخر من السنة القولية:
أما الأول:
فبيانه أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان وأصحابه في مكة بين ظهراني قومٍ مشركين؛ يبغضونهم ويحاربون دعوتهم، ويتفننون في أذيتهم، ولم يثبت عنه أنه أمرهم باغتيالات أو نحوها.
وهؤلاء في بلاد المسلمين، وأقدموا على هذه البدعة المنكرة!
وأما الثاني:
فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: “بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَضَرَبْنَاهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا مَخَافَةَ السِّلَاحِ، قَالَ: أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَهَا أَمْ لَا؟ مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ”. [متفق عليه].
َقَالَ الْقُرْطُبِيّ: “فِي تَكْرِيره ذَلِكَ وَالْإِعْرَاض عَنْ قَبُول الْعُذْر زَجْر شَدِيد عَنْ الْإِقْدَام عَلَى مِثْل ذَلِك”.
وفي لفظ لمُسْلِم مِنْ حَدِيث جُنْدَب بْن عَبْد اللَّه: “بَعَثَ بَعْثًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْم مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَالْتَقَوْا فَأَوْجَعَ رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ فِيهِمْ فَأَبْلَغَ، فَقَصَدَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِيلَتَهُ -كُنَّا نَتَحَدَّث أَنَّهُ أُسَامَة بْن زَيْد- فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْف قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَقَتَلَهُ”.
فهذا الرجل، أوجع في المسلمين أي قتل منهم عددا كبيرا، وهو معلن عداوته بل حربه للإسلام؛ ومع ذلك أنكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أسامة قتله بعد أن قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، هذا وأسامة في جهاد شرعي مع قوم مشركين.
وأصحاب التفجيرات في بدعة يسمونها جهادا، يمارسونها في بلاد المسلمين، ويقتلون من يقول لا إله إلا الله وربما يصلي ويصوم، ولم يخطر بباله أن يحارب الإسلام، وإنما يعتقد أنه يحارب التطرف، ومع ذلك يستبيحون دمه!
لولم يكن في الشريعة نصوص تحكم على أفعالكم بالانحراف؛ لاقتضى الأمر الرجوع إلى ميزان المصالح والمفاسد؛ وحينئذ نقول لكم:
أي مصلحة تتوخون من أعمالكم التخريبية؟
هداية الناس..؟ تخويف الحكام..؟ إرهاب العدو..؟
إن شيئا من ذلك لم ولن يقع؛ أما الناس فتنفرونهم، وأما الحكام فتحملونهم على الظلم، وأما العدو فمتكئ على أريكته يشمت بالمسلمين، ويروي ظمأ حقده عليهم بما يراهم فيه من تنازع وكراهية، وصلت إلى حد التكفير وإزهاق الأرواح!!
فارجعوا إلى رشدكم، وتوبوا إلى ربكم، واحقنوا دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه مراجع علمية، تنفع -إن شاء الله- من خلع لبوس العصبية منكم، ونزع رداء الكبرياء، وكان وقافا عند كتاب الله:
[بأيِّ عقل ودين يكون التفجير والتدمير جهاداً] للعلامة الإمام عبد المحسن العباد.
[التفجيرات والاغتيالات (الأسباب ، والآثار ، والعلاج )] لفضيلة الشيخ أبي الحسن المأربي.
[صيحة نذير بخطر التكفير] لفضيلة الشيخ علي بن حسن الحلبي.
[الحكم بغير ما أنزل الله] للدكتور خالد العنبري.
وقبل أن أرفع قلمي عن ورق هذه المقالة؛ أود أن أهمس كلمة في آذان متطرفي العلمانيين وطغاة اللادينيين:
اربعوا على أنفسكم؛ أما دين الله فلن تطفئوا نوره، وأما الغلو والإجرام فقد أحييتم أسبابه، وقد كتب الحفظة كيدكم وشهد التاريخ بجنايتكم على الأمة، فالويل لكم إن لم تتوبوا من حساب يوم القيامة، وشهادة تاريخ تجر عليكم الذكر القبيح…