العولمة من أكثر المصطلحات المعاصرة انتشاراً وغموضاً في الوقت نفسه؛ ولذلك يتساءل كثير من الناس عن معنى هذا المصطلح: هل هو جعل الأنظمة السياسية الموجودة في العالم على نمط سياسي واحد؟ أم فتح الأسواق وإلغاء القيود والحواجز الاقتصادية بين الدول؟ أم تصدير ثقافة معينة ينبغي لها أن تسيطر وتفوق غيرها من الثقافات؟ أم أن العولمة هي كل ما تقدم، بل وربما أكثر؟
العولمة لها معنيان: معنى معلن، ومعنى خفي. فالمعنى المعلن للعولمة هو: زيادة درجة الارتباط المتبادل بين الدول والمجتمعات الإنسانية من خلال: انتقال السلع، ورؤوس الأموال، وتقنيات الإنتاج، والأشخاص، والمعلومات. أما المعنى الخفي للعولمة فهو نشر القيم الرأسمالية في العالم، وجعله يسير وفقاً للنموذج الغربي في المجالات السياسية، والاقتصادية، والثقافية.
وتعني العولمة الاقتصادية على وجه الخصوص: نشر القيم الاقتصادية الرأسمالية في العالم مثل: الحرية الاقتصادية، وجعل الأسعار خاضعة للعرض والطلب، وعدم تدخل الحكومات في النشاط الاقتصادي، وفتح الأسواق، وربط اقتصاد الدول النامية بالاقتصاد الغربي.
وللعولمة الاقتصادية آثار ضارة وآثار نافعة. فمن الآثار الضارة: استنزاف الدول الصناعية الغربية لموارد الدول النامية، وإضعاف سلطة تلك الدول على اقتصاداتها وقدرتها على رسم سياسات اقتصادية مستقلة، وإضعاف النظم الاقتصادية المنافسة للنظام الاقتصادي الغربي كالنظام الاقتصادي الإسلامي، وارتفاع معدل البطالة، وعدم استقرار أسواق المال فيها، وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
ومن الآثار النافعة: زيادة فرص تصدير سلع الدول النامية التي تمتلك فيها مزايا نسبية إلى أسواق الدول المتقدمة، وإمكانية حماية حقوقها التجارية ومواجهة الإغراق باللجوء إلى جهاز فض المنازعات التجارية في منظمة التجارة العالمية.
وأهم منظمات العولمة الاقتصادية هي: البنك الدولي للتعمير والتنمية، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. وهي المنظمات التي تضطلع بمهمة التخطيط للعولمة الاقتصادية وتنفيذها في الوقت نفسه بتوجيه من الدول الغربية وشركاتها وبخاصة متعددة الجنسية منها.
فهي سلسلة مترابطة؛ فالشركات تضغط على حكوماتها والحكومات تضغط على تلك المنظمات لكي تخطط وتنفذ مشروع العولمة، وتضع السياسات التي تحقق أهداف العولمة الاقتصادية الخفية.
سياسات منظمات العولمة الاقتصادية:
باستقراء سياسات منظمات العولمة الاقتصادية وتتبعها، وبالرجوع إلى ما تصدره منظمات العولمة الاقتصادية من تقارير ودراسات، اتضح أن هذه السياسات تنقسم إلى ثلاثة محاور رئيسة هي:
1- سياسات معالجة العجز في الموازنة العامة:
تهدف سياسات الصندوق والبنك إلى معالجة العجز في الموازنة العامة، بمجموعة من السياسات، بعضها يتعلق بزيادة الموارد، وبعضها يتعلق بتقليص النفقات، وهو ما يحقق هدفاً آخر هو تخفيض التضخم. وأهم هذه السياسات هي:
أولا: إلغاء دعم الأسعار أو تخفيضه:
ينقسم الدعم إلى قسمين رئيسين:
1 ـ دعم الأسعار:
وهو المال الذي تدفعه الحكومة للبائعين والمنتجين المحليين لتخفيض أسعار السلع والخدمات التي يعرضونها، لكي تصبح ملائمة للناس جميعهم، أو بغرض تشجيع قطاع من القطاعات الإنتاجية، لتمكين المنتجين المحليين من المنافسة في السوق الداخلية والتصدير إلى الأسواق الخارجية.
2 ـ دعم الدخول: ويتخذ عدة صور منها: المنح الدراسية، وإعانات الإغاثة، والإعانات التي تصرفها الحكومة ومؤسسات الخدمة الاجتماعية، والزكاة والصدقات التطوعية.
والدعم الذي تطالب منظمات العولمة الاقتصادية بإزالته أو تخفيضه هو دعم الأسعار فقط دون دعم الدخول. وهي تطالب بتخفيضه لتحقيق هدفين:
الأول: تقليص نفقات الدولة.
الثاني: توزيع الموارد الاقتصادية توزيعاً أفضل.
ويزعم خبراء صندوق النقد الدولي وجود درجة كبيرة من الانحرافات في الأسعار النسبية في البلدان النامية، بسبب تدخل الدولة الكبير في الاقتصاد، الذي يؤدي إلى ظهور عدم التوازن على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وقد قسمت المنظمة الدعم إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ الدعم المحظور الذي يستدعي إجراءات مضادة، ومن أمثلته:
دعم تشجيع الصادرات كضمان التصدير، وفتح اعتمادات للتصدير بفائدة تقل عن فائدة اقتراض الحكومة، والإعفاء من الضرائب.
2 ـ الدعم المسموح به الذي قد يستدعي التقاضي، وهو الدعم الموجه إلى سلعة أو خدمة أو صناعة أو قطاع أو منطقة معينة، ويكون هذا الدعم ضاراً بمصالح الدول الأعضاء، ويسوِّغ التقاضي وإقامة الدعوى في الحالات التالية:
أ ـ إذا تعدى هذا الدعم نسبة 5% من قيمة السلعة.
ب ـ إذا خصص هذا الدعم لتغطية خسائر المشروعات.
ج ـ إذا أعفت الحكومة المشروعات العامة من الديون المستحقة عليها.
أما ما تقدمه الدولة من دعم ضمن برامج الخصخصة للمساعدة على تأهيل المشروعات العامة للبيع أو لزيادة جاذبيتها للقطاع الخاص، فلا يعد من الدعم الذي يسوِّغ التقاضي.
3 ـ الدعـم المسموح به الذي لا يستدعي إجراءات مضادة ولا يسوِّغ التقاضي، مثل:
أ ـ دعم المناطق الأقل نمواً في الدولة.
ب ـ دعم تكييف مرافق الإنتاج لتتطابق مع المتطلبات الجديدة للبيئة.
ثانيا:ً الخصخصة:
وهي تعد من أهم سياسات منظمات العولمة الاقتصادية المقترحة لمعالجة العجز في الموازنة العامة؛ حيث تطالب منظمات العولمة الاقتصادية وبخاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، البلدان النامية بهذه السياسة، وذلك لتحقيق هدفين:
الأول: تخفيض نفقات الدولة ومن ثم تخفيض العجز في الموازنة العامة.
والثاني: زيادة كفاءة المشروعات العامة واستعمال الموارد الاقتصادية استعمالاً أفضل، وفي رأي خبراء البنك أن الأداء الاقتصادي المنخفض وربما الخاسر لمؤسسات القطاع العام يعود إلى ما يلي:
1ـ ربط الأهداف الاجتماعية بالأهداف الاقتصادية.
2ـ خضوع هذه المشروعات والشركات، لتدخل مركزي صارم، مما يفقدها استقلالها.
3 ـ تحديد بيع المنتجات بأسعار لا تتفق وقانون العرض والطلب.
وعلى هذا، فإن قروض التكييف الهيكلي التي يقدمها البنك، تهدف إلى علاج مشكلات القطاع العام بما يلي:
1- إبعاد هذه المؤسسات تماماً عن الأهداف الاجتماعية والسياسية.
2ـ إدارة هذه المؤسسات على أسس تجارية بحتة، برفع أسعار منتجاتها لتتوافق والأسعار العالمية، وإلغاء الدعم المخصص لها.
3ـ عدم احتكارها للسوق المحلي وتعريضها للمنافسة الأجنبية.
4ـ منحها الاستقلال في الإدارة والتسعير والتوظيف.
وإذا لم تكن وصفة الإصلاح هذه قابلة للتنفيذ، فإن البنك يقدم ثلاث توصيات:
الأولى :إلغاء هذه المشروعات وبخاصة الخاسرة منها.
الثانية: بيع المشروعات المملوكة للدولة إلى القطاع الخاص، أو إشراك رأس المال الأجنبي في ملكيتها.
الثالثة: انسحاب الدولة من إدارة الخدمات ذات الطابع العام كالكهرباء، ومياه الشرب… والإسكان وغيرها، تاركة إدارتها للقطاع الخاص، وذلك لتخفيف العبء المالي على الموازنة العامة.
ثالثاً :الإصلاح الضريبي:
الضريبة عند “علماء” المالية العامة هي: “اقتطاع مالي، تقوم به الدولة عن طريق الجبر من ثروة الأشخاص الآخرين، ودون مقابل خاص لدافعها، وذلك بغرض تحقيق نفع عام.”
وتنقسم الضرائب إلى قسمين رئيسين:
1ـ ضرائب مباشرة وهي التي تُفرَض على المال عند اكتسابه.
2ـ ضرائب غير مباشرة وهي التي تفرض على المال عند إنفاقه.
ويرى البنك الدولي أن الهياكل الضريبية في معظم الدول النامية غير ملائمة لما يلي:
ـ أنها معقدة وتصعب إدارتها والامتثال لأحكامها.
– أنها غير مرنة فلا تستجيب لمتطلبات النمو وتغير هيكل النشاط الاقتصادي..
ويتلخص الإصلاح الضريبي في نظر خبراء البنك الدولي فيما يلي:
أـ توسيع نطاق الوعاء الضريبي، وتخفيض نسب الضرائب الموجودة، والحد من المبالغة في درجات التصاعد الضريبي.
ب- فرض الضرائب على الأنشطة التي لم يفرض عليها ضرائب، مثل الأنشطة الزراعية والعقارية.
ج-التنسيق بين فرض الرسوم الجمركية وفرض الضرائب على المبيعات.
دـ مساواة معدلات الضرائب على أرباح الشركات بمعدلات الضرائب على أرباح رأس المال في الخارج.
2- سياسات منظمات العولمة الاقتصادية لمعالجة الفجوة بين الادخار والاستثمار:
تعاني البلدان النامية نقصاً شديداً في الادخار وفي الوقت نفسه تحتاج إلى استثمارات كبيرة، وينتج عن ذلك وجود فجوة كبيرة بين الادخار والاستثمار، مما يعيق تحقيق تنمية حقيقية في هذه الدول. وهذه الفجوة تعد خللاً من وجهة نظر صندوق النقد الدولي، يتطلب معالجته بعدة سياسات أهمها: تحرير معدل الفائدة المصرفية (أي الربا)، وتطوير سوق الأوراق المالية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر. وفيما يلي الحديث بإيجاز عن تلك السياسات.
أولاً: تحرير معدل الفائدة المصرفية.
يقصد بالتحرير هنا إلغاء القيود المفروضة على معدلات الفائدة وتركها لقانون العرض والطلب.
وهذا الإجراء لا يشجع المدخرين على إيداع أموالهم، بسبب انخفاض معدل الفائدة (أي الربا)، فيبقى الادخار في المصارف منخفضاً، وتبقى مشكلة فجوة الموارد المحلية، ومنذ بداية الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي أخذ الصندوق يوجه النظر إلى الانحراف الكبير الذي يؤثر في تشكيل معدلات الفائدة (الربا) في البلدان النامية، ودعا إلى إعادة نظر شاملة للفكر الذي تطرحه النظرية الكينزية لتنظيم القطاع المالي، الذي يجعل الادخار مرتبطاً بالدخل وغير مرن بالنسبة إلى معدل الفائدة (الربا)، وأنه يجب المحافظة على معدلها عند مستوى منخفض
ثانياً: تطوير سوق الأوراق المالية.
وتتسم الأسواق المالية في الدول النامية ـ في نظر خبراء الصندوق والبنك الدوليين ـ بضيق نطاقها وعدم تنوع هياكل أصولها المالية.
ثالثاً: تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر.
ينقسم الاستثمار الأجنبي إلى قسمين رئيسين:
1ـ استثمار أجنبي مباشر.
2ـ الاستثمار الأجنبي غير المباشر.
وتشجيع الاستثمار الخاص المحلي منه والأجنبي، من السياسات التي يتبناها البنك الدولي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، ويحرص البنك على زيادة عمل القطاع الخاص: المحلي والأجنبي، في الاضطلاع بعمل رئيس في التنمية، بتمكينه من الاستفادة من مدخرات المجتمع في البنوك وغيرها من مؤسسات الإقراض المحلية، إضافة إلى تسهيل حصوله على القروض الخارجية سواء من مؤسسات خاصة أم رسمية، وكذلك بتشجيع انسياب رؤوس الأموال الأجنبية الخاصة للاستثمار داخل البلاد، مع إعطائها قدراً أكبر من الحوافز والمزايا والضمانات.
أما منظمة التجارة العالمية فقد طالبت بإلغاء الشروط التي تشترطها السلطات المحلية على الاستثمارات الأجنبية، بدعوى أن تلك الشروط تقيد التجارة العالمية وتعرقلها، وتناقض مبادئ المنظمة، وتحد من نمو التجارة الدولية، وتضع العراقيل أمام حركة الاستثمارات عبر الحدود الدولية.
من كتاب “سياسات منظمات العولمة الاقتصادية في ضوء الشريعة الإسلامية” لـ د. ناصح بن ناصح المرزوقي البقمي.