التصوف السني بالمغرب حقيقة أم خديعة الحلقة الأولى أبو عبد الرحمن ذوالفقار بلعويدي

التصوف وإشكالية وحدة المذهب ونظرية التقسيم

لا تزال دعوى مسألة تقسيم التصوف إلى سني وغير سني تطفو بين الحين والحين، ويتكرر ذكرها مرارا وتكرارا قصد إضفاء الشرعية على التصوف وربطه بالسنة، إقناعا للخاصة وتذكيرا للعامة على أن هناك تصوفا سنيا ببلادنا. هو تصوف -كما يزعم أصحاب هذا الادعاء- يتماشى مع مبادئ أهل السنة؛ تستمد أصوله من القرآن والسنة وعمل الصحابة والسلف الصالح، قوامه التربية الراشدة بتهذيب النفس وتزكيتها، وأنه غير ذاك التصوف البدعي الفلسفي الإشراقي.
ولقد نشط الاتجاه الرسمي ببلدنا في ترشيد العمل الديني ودعمه بكل ما يملك من وسائل لتكريس قضية التقسيم هذه. وذلك عبر قنواته التلفزية الرسمية، ونشر المجلات؛ كمجلة المجلس، وتأليف الكتب؛ ككتاب «التصوف السني وأعلامه بالمغرب» منشورات المجلس العلمي المحلي بالقنيطرة، وهو كتاب يضم أربع أبحاث مستقلة لكل بحث كاتبه. وكتاب «دليل الإمام والخطيب والواعظ» منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وكذا عبر برامجه التأهيلية كسلسلة دروس التصوف التي تنشر ضمن «برنامج تأهيل أئمة المساجد في إطار خطة ميثاق العلماء» وهو من إعداد وإشراف المجلس العلمي الأعلى.
جهود كثيرة وظيفتها تلميع أشياخ التصوف والإشادة بهم، وتضخيم شأنهم وتفخيم أمرهم، والتعريف بهم وإبراز أسماء مراجعهم، مستندها مقاطع من صالح ظاهر كلامهم أثر عن بعض مشايخهم، دون أن يتفردوا بالقول بها عن غيرهم من الطوائف. ظاهرها أن مرجع القوم هو الكتاب والسنة. وذلك مثل قول الجنيد سيد الطائفة: “من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة”، وكذا قول أبي عبد الله التستري: “بنيت أصولنا على الكتاب والسنة ….”(1)
لكن الذي لا ينبغي التغافل عنه عند سرد مثل هذه النقول والترويج لها من طرف المعجبين والمحتمين بها، هو استحضار دون تجاهل أن أصحاب هذه النقول هم صوفية بالاتفاق. ونصوص الشريعة في المدلول الصوفي سواء سنيه وفلسفيه -زعموا- لها ظاهر وباطن، وباطنها يخالف ظاهرها. وهذا الباطن علم خاص بهم يطلقون عليه اسم العلم اللدني أو علم الحقيقة، وخاصيته تكمن في أنهم يأخذونه عن الله بلا واسطة.
وهذا يلزمنا عند الاستدلال بنقولهم، فَهْم حقيقة مرادهم منها ومدلول ألفاظهم، وحملها على المعنى المؤدي للمطلوب عندهم وفق هذا العلم الخاص بهم. وذلك باعتبار التصوف منهجا يشتمل على أصول وقواعد يعتمدها الصوفي في تعامله مع الكتاب والسنة، يمتنع الذهول عنها لمن يريد التحقيق في كلامهم. وإلا لزمنا تبرئتهم من نسبة التصوف وهذا دونه خرط القتاد.
التصوف السني غاية لا تدرك
وكما هو معلوم أنه ليس كل من ادعى أن علمه مقيد بالكتاب والسنة، يكون قد استشهد بدليل معتبر، حتى يكون قوله قولا محكما لا يفتقر إلى ما يدل على المراد منه. وإلا كان قوله تمييعا يوهم العامة أن طريقه على أصول أهل السنة.
وعلى هذا كان قول القائل: “علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة” أو ما شابهه، فيه من الاشتباه والاشتراك ما يفقد القول مدلوله، ويفرغه من مضمونه الأصيل، الشيء الذي يجعل منه قولا غير منضبط لا يُعتمد عليه عند الاحتجاج، لإمكان تناوله بحق وباطل. وهذا ضرب من ضروب المغالطة والتلبيس الذي يوهم ظاهره إرادة مذهب أهل السنة، ويكون مراد المستدل به تسويغ وستر باطله. مما يستوجب منا التوقف عن الترويج له وعدم التسرع في الاستدلال به، وإن كان القائل هو الجنيد سيد القوم، والقول المستدل به هو: “علمنا مقيد بالكتاب والسنة”، لاحتمال كبير أن يكون المراد منه في استعمالهم علمهم اللدني، ونحمله نحن على علمنا الشرعي.
لاسيما إذا ما استحضرنا أن ليس في المتصوفة من لم يجعل مرجعه الكتاب والسنة. حتى أولئك الذين أبعدوا من حظيرة ما أسموه بالتصوف السني كابن عربي(2) مثلا، بدعوى أن تصوفه إشراقي فلسفي.
اسمع إليه وهو يقول بنفسه عن كتابه الفصوص: “أما بعد: فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُبشَّرةٍ أُريتها في العشر الأخير من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة، بمحروسة دمشق، وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب، فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم، خذْه واخْرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة…وجرَّدت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حدَّه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان..”(3)
وفي كتابه الأحاديث القدسية، ذكر أنه لما وقف على الحديث المروي في فضائل الأربعين، بمكة المكرمة، سنة 599 هـ، جمعها بشرط أن تكون من المسندة إلى الله تعالى، ثم أَتْبعها أربعين عن الله تعالى مرفوعة إليه، غير مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أردفها بأحد وعشرين حديثاً، فجاءت واحداً ومائة حديث إلهية(4)…
وأكد هذا الأمر الشعراني مقررا لهذا الادعاء بقوله: وكان (ابن عربي) متقيداً بالكتاب والسنة…(5).
وحسبنا هذه النقول في إبطال وإسقاط دعوى تصور «تصوف سني» مستقل عن «تصوف بدعي» من كل اعتبار في قطع النزاع ، وأن الاكتفاء بالاستدلال بقولهم أن طريقهم مقيدة بالكتاب والسنة لا يعتمد عليه إلا مخادع، أو مخدوع لا يعرف أصول التصوف، أو لا يعرف أصول أهل السنة، أو ينشد تصوفا لا وجود له في عالم الواقع. فهو قول يحتاج إلى بيان، يُمَكِّن القارئ من الفصل بين من يريد تحقيق مذهب أهل السنة، وبين من يتخذه ذريعة يتترس بها قصد ترويج بدعته والتمهيد لها.
وكيف لا والصوفية أنفسهم يصرحون بخلاف مضمون دعوى التقسيم هذه!!
هذا الجنيد إمام القوم يقول: “الصوفية أهل بيت واحد”(6).
وهذا ابن عجيبة المغربي الصوفي يقول: “ومذهب الصوفية هو الاتفاق في الأصول والفروع. أما الأصول فنهايتهم الشهود والعيان وهم متفقون فيه لأنه أمر ذوقي لا يختلف”(7).
ويقول عبد القادر عيسى الشاذلي:” إن الطريق واحدة وإن تعددت المناهج العلمية، وتنوعت أساليب السير والسلوك تبعا للاجتهاد وتغير المكان والزمان، ولهذا تعددت الطرق الصوفية وهي في ذاتها وحقيقتها وجوهرها واحدة”(8).
وهذا عبد الحليم محمود الشاذلي يقول: “و في الناس من يرى التصوف مذاهب وفرقا وطوائف، ولكن هذا التفكير المنحرف تأتى إلى القائلين به من نظرتهم إلى علم الكلام والفلسفة….، ولقد خلط الكاتبون بين هذه الدراسات والتصوف فزعموا أن في التصوف مذاهب وفرقا وطوائف… فإن التصوف وهو تجربة مذهب واحد لا تعدد فيه ولا خلاف…. ولا يستساغ الخلط بين طرق التصوف وهي وسائل، وبين الغاية وهي التصوف نفسه، فطرق التصوف متعددة مختلفة، وبعضها أوفق من بعض، وبعضها أسرع من بعض، ولكنها على اختلافها وتعددها، تؤدي إلى هدف واحد وغاية واحدة.
التصوف إذن مذهب واحد بصيغة (المفرد) لا مذاهب بصيغة (الجمع)”(9).
ويقول ابن البنا السرقسطي: “مذاهب الناس على اختلاف ومذهب القوم على ائتلاف”(11).
وفي الجملة وباختصار كبير فهؤلاء شيوخهم المشهود لهم بالإمامة، وهذه نقولهم المعتمدة من مراجعهم المعتبرة عندهم، وهي بحمد الله تكفي في دحض قبول دعوى وجود تصوف سني مستقل بعلة تصريح بعضهم أن طريقهم مقيدة بالكتاب والسنة.
يتبع..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب “التصوف السني وأعلامه بالمغرب” ص:35.
(2) انظر نفس المصدر ص:88.
(3) فصوص الحكم بتعليق عفيفي، (ص:47)، وشرح القاشاني، (ص:9).
(4) الفتوحات المكية: (4/555) لابن عربي.
(5) اليواقيت والجواهر: (1/6) للشعراني.
(6) الرسالة القشيرية (ص:218) لأبي القاسم القشيري.
(7) الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية ( ص:102-103 ) لابن عجيبة.
(8) حقائق عن التصوف ص: 272
(9) التعرف لمذهب أهل التصوف ” ( ص: 12-13 ) لأبي بكر محمد الكلا بادي .
(10) الفتوحات الإلهية، (ص:101).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *