تقديم:
تبين هذه الدراسة المقدمة من جنرال مارس الحرب على المغاربة نظرته التحقيرية للمغربي، واستخفافه بنمط تفكيره، وفجاجة تصرفاته، وسبب رفضه تقبل الحضارة الدموية الغربية التي لا ترى غير الغربي سوى خانعا ذليلا، ما جعلهم يتفاجؤون من صلابة المقاومة المغربية واسمرارها، ولما لم يجدوا لها ضابطا، أطلقوا على القائمين بها صفة التفلت، وهذا هو البحث:
التفلت المغربي (حول الحملات الصعبة بالمغرب)
في أوراق قديمة وجدت خطابا ألقاه القيم العام الفرنسي بالمغرب لوسيان سان في يناير 1933 أثناء مأدبة غذاء دورية أقامتها الجمعية الباريسية (المغرب) بين فيه الرؤية المستقبلية لسياسته بناء على ما جرى بالفعل سابقا مابين 1933-1934 فأثار اهتمامي الفقرات التالية:
(إذا تأملنا خريطة آخر مناطق التمرد، نرى أنها قد تقلصت الآن بشكل كبير، فخارج البؤرة الصغيرة لصاغرو القليلة السكان، والتي سيتم استيعابها بدورها، من خلال لعبة سياسية بدعم من مستطلعي الشرطة، لم يتبق سوى بؤرة الأطلس المركزي الكبير، التي سبق مباشرتها بجدية في الصيف الماضي، مع مناطق الأطلس الصغير جنوب تيزنيت.
بؤرة الأطلس الكبير تم تهدأتها بالكامل أثناء صيف 1933 ومنطقة الأطلس الصغير ستكون موضوع عملية في الخريف والشتاء.
“لقد حانت الساعة التي سيتحرر فيها المغرب من مناهضينا في الجبال، ويصبح هادئا بالكامل لغاية مشارف الصحراء بالجنوب”.
هذه الكلمات تعكس تفاؤلا نادرا لحد ما بين رؤساء حكومات الحماية الذين يميلون للمبالغة في الصعوبات التي يتعين عليهم التغلب عليها.
التفاؤل والرؤية الواضحة إلى حد ما للوقائع، لأنه إذا كان احتلال “البقعة الصغيرة من صاغرو” صعبا بشكل خاص، وكلفنا خسائر كبيرة، فإن غزو الأطلسين الكبير والصغير تم بإيقاع ثابت، وبدأنا بشكل جيد السير نحو الصحراء في الجنوب، مع حلول أبريل 1934.
القوات المغربية قدمت لنا دعما كقوات غرب إفريقيا
لكن هذه النتائج لم تكن إلا ثمنا لجهود كبيرة بذلت للحصول عليها مدعومة بالسياسة التي لعبت دورا، وإن كان أقل من صلابة القوات
أثناء إلتقاء منملة جيش صغير حقيقي في منحدرات الأطلسين الكبير والمتوسط،
مبعثرا في غبار تحركاتها، من غير ترابط بينها وأحيانا يكرهون بعضهم لأنه لا يجمعهم إلا هدف إضعاف مراكز الخصم -الذين هم نحن- المحاصر في الدفاع بنواحي جبلية متفرقة، مجردة من الموارد، صعبة التموين والإسناد.
- يبدو أن (التفلت) المغربي يكمن في المقام الأول في تعصب لم تجد القوات الفرنسية مثله قط
– تعصب ديني للسكان المسلمين، غالبا أثناء العمليات (يدل على ذلك أنه)
في 1932 استمع جنودنا في سكون ليلة اليوم السابق للمعركة، من معسكر الأعداء دعوات شديدة نحو السماء، بأصوات كثيرة عالية.
– تعصب غاضب أضر بعقول أناس فصاروا وقحين مخيفين (ذلك أن كل أوغاد المغرب فارين من الخدمة العسكري، قطاع طرق، بالخصوص عصابات الشلوح) لم يعودوا يأملون في أي رحمة من المنتصر، فصمموا على بيع جلودهم البائسة بثمن غال.
– تعصب -أيضا- أناس عندهم بعض المعرفة، مقاومون لعدوى (الخضوع) الذي يتيح التقدم لمصلحتنا في الشؤون الأهلية،
أثناء غزو إمراطوريتنا الإستعمارية تبين أن السيطرة على سكان المستعمرات المغزوة في متناول اليد من الناحية المنطقية، لأن أمرهم منتهي، بسبب اليأس الذي سكن قلوبهم، فجعلهم يقبلون الاستعباد الفرنسي.
أما بالنسبة للأمازيغ فإن مثل ذلك السلوك لم يحدث عندهم، فهم يرون أن أحسن يوم لذيهم وأسعده يوم الإعلام بالحرب، ودعوتهم للمقاومة بلا هوادة كيفما كانت الأوضاع، ومع أي كان، فهم سيقاتلون حتما -حتى ولو لمجرد المغامرة، إنهم سيذهبون للقتال- إذ يجب على الأقل أن يقوموا لآخر مرة بتجربة بسالتهم بـ(بارود الشرف) -ولو كان أحيانا قاتلا، وهي لفتة تفرض احترام شخصيتهم، إن لم يكن ذكاءهم.
أيضا ربما أكون مخطئا في اتهامهم بنقص الذكاء، لقد عرفت من أنهم بالتأكيد لا يستحقون هذه المقاربة، فهم يفتقرون -لا أعرف لماذا- للحس السليم والحكم الرشيد، مما يجعلهم ينكرون وجود الخطر، فلا يخافون منه.
الشلوح لا يقرأون الجرائد وربما لهذا السبب لا يخشون الجيوش الحقيقية التي تتقدم نحوهم والذين لا يتوجسون من سطوتها، ربما يكون إخفاء وضعهم الحقيقي هذا ناتج عن غرور عجيب من صنعهم هم أنفسهم.
في أعقاب عمليات الأطلس الصغير أظهر لي تمنارتي بفخر ثلاثة مدافع برتغالية قديمة علاها الصدأ، بدون عربة، ولا ذخيرة، موضوعة في مكان، وكل منها مصوب لجهة خطيرة معينة، هذا العتاد بالتأكيد ساعد في هيبة الإدارة، لكن لا أعتقد أن التمنارتي كان مقتنعا بنقل تلك الخشية لي، لأنه احتمال أنه هو أيضا يعرف قيمة هذه المتلاشيات.
وبعد فعندما تقوم بتحليل شخصية قايد مغربي، وتعتقد أنك استنتجت نواياه يفاجؤك بتغيير موقفه، يجب اعتبار عوامل الغيرة والمنافسة والكراهية بين قبيلة وأخرى، فالقائد من حيث المبدإ يوجد على علاقة سيأة مع جميع جيرانه المباشرين، وهو الحليف الطبيعي لهم، لذلك أحيانا عندما يدخل زعيم منشق في مفاوضات معنا، فإنه يفاوض أيضا باسم جيرانه على الوضع المناسب لنا.
فإذا سنحت له الفرصة للتفلت من إكراهاته الموضوعة من قبلنا أو من قبل المولين لنا مخزنا كان أو طلائع بوليس واستعلامات، عاد من جديد للمقاومة، وهو ما فعله الحنفي ومربيه ربو مثلا في الأطلس الصغير، وبين واد نون ودرعة.
التعصب الديني، الخوف من العقاب النموذجي، الكبرياء، الإفتقار للحس السليم، التفكير الذاتي الإداري، هذه العناصر كلها عند الأهلي هي التي تشكل مقومات المغربي.
لكن هناك عناصر أخرى ناتجة عن وضعنا بالمغرب، فقرب فرنسا من المغرب يقدم تسهيلات واضحة لتحركات جيدة للعمليات ويساعد ذلك الجوار على إدخال عنصر من النظام السياسي في سلوك الأهالي، بعد ما كان غير موجود بأية درجة خلال البعثات الفرنسية الداخلة للمغرب منذ مدة طويلة.
بعد الحرب العالمية واستمرار المقاومة بالمغرب وتوالي طلب الإمدادات من المتربول لقوات الاختراق بالأطلس لفرض التهدئة، بدأت أقل الخسائر التي يتعرض لها الفرنسيون بالمنطقة تثير ردود فعل مؤلمة عند الرأي العام الفرنسي الذي فقد (عقلية الحرب) نتيجة التضحيات التي بذلها في ساحات المعارك بأوربا وما وراء البحر.
من جهة أخرى غياب سياسة استعمارية مفهومة بشكل جيد، متوافقة مع تقاليد فرنسا التي تشجع على تجنب المنشقين مثلما يقول ليوطي أظهر القوة حتى لا تضطر لاستعمالها، تحسبا لأن يصبح خصوم الأمس أصدقاء الغد، لذلك لا يجب أن تكون الحرب ضد آخر المتمردين حرب إبادة.
باختصار على الجبهة المغربية، المشكلة التي تطرح أثناء سير العمليات تتمثل في التوفيق بين ثلاثة اتجاهات متناقضة يمكن اجمالها كالتالي:
تجنب ما أمكن استخدام المدافع الخلفية والرشاشات حتى لا يتم إحداث دمار كبير
في الواجهة لنزع سلاح الأشخاص الذين لا يرغبون في ذلك طوعا أوكرها، نعترف بأنها مشكلة معقدة، لكن يبذو أن الحل كان سعيدا جدا، فقد تم السعي لتنفيذ تلك المهمة أولا وقبل كل شيء عبر قوات ضخمة تم انتشارها على نطاق واسع -بغية الوصول للخصم في تحصيناته بالجبال والمضايق- على شكل جماعات صغيرة جيدة التسليح منفصلة بعضهاعن بعض بما لا يضعف رميها، أو وقوعها في كمائن العدو، مستخدمين أعداء الأمس كقوات مساعدة تعمل لصالحنا بعدما تم إخضاع قبائلها مسبقا، مثلا تم في سنة 1932 حيث قامت قرية أنفكو بمقاومة عنيفة لقواتنا كبدتها خسائر فادحة، مما أوجب معه إخلاء الموقع دارا بدار.
في 1933 قامت هذه القرية نفسها التي كانت أمام مراكزنا المتقدمة والتي كانت على اتصال أيضا بالعصاة، بتقديم كثيرا من المتعاونين المحترمين لنا، في الاستطلاع والاختراق.
ومثله ما وقع لي في أبريل 1934 ببزاكرن بعد أن زرت الحنفي الذي كان استسلامه صعبا، وعند مغادرتي له طلب مني أن أحمل معي في سيارتي أحد خدامه الذي يريد الذهاب لتنالت، وهو بطل رائع يشع الذكاء من عينيه، قبل شهرين انتظر جنودنا بثبات مستعدا لإطلاق النار، هذا اليوم لم يخف نشوته بالتنقل في سيارة بجانب الفرنسيين، ولم يكن ليتخلى عن مكانته تلك بأي ثمن، وفي غضون أسابيع شاء الله أن يدخل في طاعة المخزن.
لكن القوات المساعدة لا يمكن لها ضمان الغزو النهائي واحتلال الأرض، دورها هو التخفيف من خسائر وتعب القوات النظامية خاصة من العناصر الفرنسية في تلك القوات التي تستعمل بمقدار، ذلك أن المستعمل في القتال هي عناصر اللفيف المكون من الجزائريين والسنغاليين، والمغاربة، هذه المرة أيضا جعلنا تأرجح عناصر مغربية يعمل لصالحنا، فالرمي المغربي الذي يطبعه الغرور والكبرياء والتعصب يجعله يتحمل الصعاب بشكل غير قابل للتصديق، فهو يستميت دون عناء في قطع خمسين كلم في اليوم مقاتلا بأرض جبلية، مثله مثل المنشق يعرف كيف يتسلل في كل مكان، متنقلا بين الصخور لكي يقضي على خصمه بالتأكيد.
لقد استعملنا في جبهة القتال كل الأسلحة الطيران والسيارات المصفحة، والدبابات والأسلحة الأتماتكية ومعدات المشاة والمدفعية من مختلف الأعيرة التي لعبت دورا هاما في الصراع حتى في النواحي الشديدة الانحدار أو الصحراوية.
كما أن مصلحة الاستعلامات قدمت مساهمات هامة مع سكان الحدود العصاة وبحثت عن كافة السبل لاختراق مجال الخصم وربط الاتصال معه، كل ذلك من أجل بناء نوع من الثقة بين الأهالي المؤدية لنجاح السيطرة النهائية على العصاة المجاورين لهم وإخضاعهم بصفة نهائية.
في المجمل الرأي العام الفرنسي يستغرب أحيانا من تأخر التهدئة الشاملة لهذا البلد القريب من المتربول، ومستغرب أيضا من العدد الهام للقوات الموضوعة لهذا الغرض، إذ في 1932 بلغ عدد القوات العاملة في جنوب المغرب 13000 رجل و8000 حصان وفي 1934 ارتفعت لحوالي 30000 رجل بين نظامي ومساعد، لكن التجربة بينت أن هذا العددليس مبالغا فيه إذا أردنا الحصول على نتيجة مرضية بأقل الخسائر الممكنة، لأن مواجهة خصم جريء وشرس تقتضي ألا تكون ضعيفا في أي مكان.
وهكذا تمكنا من حل مشكلة نزع سلاح الخصم، بأقل قدر من التدمير، وتجنب استخدام المدافع والرشاشات قدر الإمكان كما سلف، وتكييف التوقعات مع ظروف نتائج التفلت المغربي، وهذا ما يثبت أن المراحل الأخيرة من التهدئة المغربية جرت على طول الخط التقليدي الذي رسمه كبار أسياد الحرب الاستعمارية.
الجنرال جون شاربونيو: Maroc :vingt- troieme heure ص 19-32.