توالت ردود الأفعال في العالم بأسره حول بث الفيلم المسيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وتعددت وتنوعت أنواع الاحتجاج من بلد إلى آخر؛ وكل عبر حسب وجهة نظره وبما أتيح له من وسائل وإمكانات عن غضبه وامتعاضه من الإساءة الجبانة والخسيسة لرسول البشرية جمعاء؛ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وترتب على أنواع الاحتجاج تلك؛ قتل السفير الأمريكي وعدد من الموظفين بالقنصلية الأميركية ببنغازي؛ واقتحم متظاهرون يمنيون مبنى السفارة الأمريكية بصنعاء لأول مرة منذ إنشائها؛ رغم ضخامة التحصينات الأمنية المشددة حولها، ووفقا لبيان وزارة الصحة المصرية فقد ارتفع عدد المصابين في الاشتباكات الدائرة في محيط السفارة الأمريكية بالقاهرة إلى أكثر من 224 شخصا.
كما شهدت العديد من الدول العربية الأخرى موجة عارمة من الغضب والسخط؛ تمثلت في القيام بوقفات احتجاجية وإصدار بيانات وحرق العلم الأمريكي؛ وأعربت العديد من الدول العربية كالمغرب ومصر والسعودية والأردن ولبنان والسودان عن إدانتها لهذا الفيلم.
وأصر مسلمو الهند على أن يقوموا بإنتاج أكبر وأضخم فيلم سينمائي عرفه التاريخ؛ يعرِّف بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ يردون من خلاله على أقباط المهجر وكل من سولت له نفسه التنقص من سيد وإمام البشرية.
ولم يقتصر أمر الاستنكار على الدول المذكورة بل تعداه إلى تصريحات -سياسية ليس إلا- لبعض القادة الغربيين أيضا؛ حيث ندد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بالفيلم ووصفه بـ”بالشنيع”، ووصفته وزيرة الخارجية الأميركية بـ”المقرف”، وأكد الرئيس الروسي بوتين أنه “إذا لم ترد الحكومات على الإساءات الدينية بقوة فسيحمي الناس وجهات نظرهم بأنفسهم”.
ورغم الضجة الكبيرة التي أثيرت حول الفيلم؛ وحساسية الموضوع وخطورته لارتباطه بعقيدة الأمة وثابت من ثوابتها الكبرى؛ إلا أن الصحافة العلمانية في بلدنا لم تول الموضوع أي اهتمام؛ وانتهجت فقط سياسة النعامة رجاء منها في أن تمر هذه العاصفة بسرعة ودون خسائر تذكر.
فلطالما صدعت رؤوسنا هاته المنابر بالدفاع عن الإسلام الوسطي؛ ومحاربة الفكر الوهابي المشرقي المتطرف؛ وزعمت -وكأنها تخاطب من لا يعقلون ولا يفهمون ولا يبصرون- أن ديننا هو دين التسامح؛ وأنه مخالف لدين المشارقة الذي يتسم بالغلو والتطرف.
ومن ادعى شيئا كان عليه بيانه وإلا كذبته شواهد الامتحان؛ فها هي قد دقت ساعة الحقيقة؛ على قول فرعون ليبيا البائد؛ فلم لم نسمع لهذه المنابر قولا ولم نر لها فعلا؟
ألا يعد الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم أمرا متفقا عليه بين المسلمين جميعا؟
أم أن الإسلام الوسطي الذي يستترون خلفه يبيح الطعن في سيد البرية صلى الله عليه وسلم؟
لقد وقع العلمانيون بسبب هذا الفيلم في حرج شديد؛ ذلك أنهم لا يستطيعون الاعتراض على بث الفيلم ونشره؛ رغم إساءته الواضحة للإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم؛ فحرية التعبير وحرية الفن وعدم تقيده بدين أو خلق؛ عقيدة راسخة في قلوبهم؛ لطالما دافعوا عنها وبذلوا في سبيل إرسائها الغالي والنفيس؛ ومِثل هاته المناسبات أو الأحداث التي تتصادم فيها حرية الفن والإبداع -زعموا- مع استفزاز عقائد ومشاعر المسلمين؛ هي محطات يجب الوقوف عندها مليا ومساءلة الكتاب والباحثين المنتمين إلى هذا التيار عن مدى مصداقية الشعارات التي يرفعونها وحقيقة انتمائهم لهذا الدين وولائهم لنبيه الكريم.
فهم يعلمون جيدا أن مثل هاته الأحداث وإن كانت تصدم مشاعر المسلمين وتستفزهم؛ فهي ليست في صالح التيار العلماني؛ بل على العكس من ذلك تماما؛ إذ غالبا ما يعقب هذا الغضب تحرك كبير للمسلمين وللحركات الإسلامية التي تنشط في الدعوة إلى الله؛ خاصة في العالم الغربي؛ حيث يقبل الناس على السؤال عن هذا الرسول العظيم الذي يحتل مكانة كبيرة في قلوب أتباعه حتى بعد مضي أكثر من أربعة عشر قرنا على وفاته.
فقد سود من قبل أحمد عصيد ومحمد الساسي وسعيد الكحل والمختار لغزيوي.. المقالات؛ وعبرت كل من خديجة الرويسي وخديجة الرياضي وفوزية العسولي.. وأصدروا البيانات؛ وترصدوا لكل شيخ أو داعية ونصبوا محاكم التفتيش لينقبوا في الفتاوى والجرائد والمجلات والكتب عما يخالف عقائدهم التي يزعمون أنها كونية، وكانوا دوما يتترسون وراء الإسلام الوسطي؛ وأنهم ليسوا ضد الإسلام ولا ضد أحكامه وشرائعه؛ وإنما هم ضد قراءة معينة للنصوص الدينية؛ وضد الفكر الوهابي المدعوم بالاقتصاد النفطي؛ ولا أحد على الإطلاق يملك المزايدة على صدق انتمائهم لهذا الدين وحبهم لنبيه.
وكانوا -ولا زالوا- لا يفوتون فرصة ولا حدثا وطنيا أو دوليا إلا وسجلوا موقفهم؛ وعبروا عن رأيهم من خلال المرجعية التي يدينون بها؛ لكننا اليوم لم نسمع لهم صوتا ولم نشهد لهم بيانا يستنكر ازدراء الأديان والتجني على الإسلام ونبي الإسلام بالكذب والبهتان!
علما أنه لو تعلق الأمر بحرية الردة أو حرية الشذوذ والزنا وشرب الخمر؛ وأن يقبل الرجل أن تمارس أمه وأخته وابنته حريتهن الجنسية كما يبدو ذلك لهنَّ ملائما؛ لأقاموا له مأثما وعويلا؛ ولتعددت مقالاتهم وتنوعت بياناتهم وكثرت تصريحاتهم؛ أما أن يطعن في نبي الإسلام فهذا أمر لا يجب الالتفات إليه على الإطلاق.
فلم تعد الصحافة العلمانية ملفا واحدا حول الموضوع؛ بل لم تحرر مقالا أو تجري حتى استجوابا -ذرا للرماد في العيون- تستنكر من خلاله هذا العدوان على نبي المسلمين؛ بل ركزت على حادث مقتل السفير فقط؛ وظلت غارقة في التسويق لثقافة العري والابتذال؛ وإنكار أحكام معلومة من الدين بالضرورة؛ والنيل من المتدينين والمستنين بسنة المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم.
ومن تتبع ما نشرته هذه المنابر خلال الفترة التي واكبت موجة الغضب إثر الفيلم المسيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فستقع عيناه على عناوين من قبيل:
– 300 فيلم من 60 دولة في مهرجان بغداد السينمائي.
– تغيير لون الشعر مغامرة قد تؤدي إلى كارثة.
– هل تجهض المرأة لمجرد المتعة.
– الناصري متخوف من مستقبل الفن في ظل حكومة الإسلاميين. (الصباح؛ ع:3863).
– حشر الدين في السياسة اعتداء على الوطن. (الاتحاد الاشتراكي؛ 10192).
– عامل سيدي سليمان يلتقي سلفيين متطرفين ويعطي الشرعية لشرطة الأخلاق. (الأحداث المغربية؛ ع:4766).
أما القناة الثانية فقد أولت حادث مقتل السفير الأمريكي ببنغازي في حصة الأخبار عناية كبيرة؛ ولم تزد تغطيتها للفيلم للمسيء للرسول عما بثته BBC أو قناة الحرة الأمريكية وكأن الأمر لا يعنيها في شيء!
فموقف العلمانيين من النبوة موقف معروف مبثوث في كتبهم؛ رغم أن التعبير عن هذا الموقف يختلف بحسب البلد ومدى تغلغل العلمانية في المجتمع ومؤسساته؛ ولئن كان بعضهم ينتهج سياسة النفاق والتقية وإخفاء ما يعتقده إلى حين تهيئ الفرصة للبوح به؛ فبعضهم يجاهر بعقيدته أمام الملإ ولا يعبأ بأحد؛ ولنستمع إلى أقوال بعض صناديدهم فيمن أرسله الله تعالى رحمة للعالمين.
يقول سيد القمني في كتابه الحزب الهاشمي: “إن النبي لم يعدو أن يكون مؤسسا ثانيا للحزب الهاشمي الذي وضع نظريته وإيديولوجيته عبد المطلب”.
وقال طيب تيزيني في مقدمات أولية ص:426 عن لغة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: “ليست لغة الحوار الهادئ المنظم؛ إنها لغة مشحونة بالتوتر واللهاث وراء التخويف من أهوال جهنم”.
واتهم أركون النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعامل مخالفيه معاملة قاسية جدا وسلبية تماما؛ وأن الهدف من صراع النبي مع الكفار هو السيطرة على السلطة الكاملة. (القرآن من التفسير الموروث؛ ص:75).
ووصف عبد المجيد الشرفي في كتابه الإسلام والحرية (ص:106) من رد على سلمان رشدي الذي طعن في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأنه: “سلوك مخز من جميع الجهات، وأنه انتهاك لمبادئ حرية الرأي وحرية التعبير، وأنه راجع إلى الطغيان والجهل”.
فموقفهم من مبلغ الوحي محمد صلى الله عليه وسلم هو نفس موقفهم من الوحي؛ الذي يعملون جاهدين على نسفه من خلال اعتماد النقد الإيديولوجي كوسيلة للتخلص مما يسمونه فكر العصور الوسطى!
إن الغيرة التي أبدتها شعوب العالم الإسلامي وغير الإسلامي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تنبئ أن الأمة الإسلامية أمة ولادة؛ وأنها أمة تمرض ولا تموت؛ ولا يملك الإنسان إلا أن يثمن كل المجهودات التي بذلها الغيورون؛ ويرشد أخرى حادت عن جادة الصواب.
فليس القس الأمريكي المتطرف (تيرى جونز) الذي سبق له أن أحرق نسخا من القرآن الكريم وتبنى الفيلم وساهم في نشره؛ ولا القبطي نيكولا باسيلي الكاتب المفترض للفيلم؛ ولا المخرج الصهيوني سام باسيل، وحدهم من يستحق أن يحاكم ويحاسب على جرائمهم، فكم من واحد يسكن بين أظهرنا ويحمل بطاقة تعريف بلدنا يطعن في نبينا الكريم صباح مساء ولا أحد يلتفت إليه أو يحذر منه.