ذمّ التكفير من غير موجب من خلال بيان مفهوم مصطلح ”أهل التوحيد” في كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري -5-   عمر خويا

 

الأدنى مرتبة ممن نالتهم الشفاعة هم أولئك الذين قالوا لا إله إلا الله، ولقوا الله ولم يشركوا به شيئا وليس في قلوبهم كثير إيمان ولم يعملوا خيرا قط. ودليل ذلك هو أن كونهم “لم يعملوا خيرا قط” ليس على إطلاقه، فهو محمول على القيد الوارد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «أن رجلا لم يعمل من الخير شيئا قط، فلما حضرته الوفاة قال لأهله: إذا أنا متّ، فخذوني وأحرقوني حتى تدعوني حممة، ثم اطحنوني ثم اذروني في البحر في يوم راح. قال: ففعلوا به ذلك، قال: فإذا هو في قبضة الله، قال: فقال الله عز وجل: ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك. قال: فغفر له»[i].

الرّجل في نص الحديث لم يعمل خيرا قط، لكنّ هذا لا يعني أنه كافر أو مشرك، لأن المشركين والكفار هم من الذين وجب لهم الخلود في النار بنص القرآن، قال الله سبحانه:«وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا» النساء:115، وقال عز وجل: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ هِيَ حَسْبُهُمْ ۚ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ»التوبة:68، لذلك فصفتا الكفر والشرك تنتفيان عنه وجوبا، وفي المقابل تثبت له بالضرورة صفة الإسلام بإقراره لله تعالى بالوحدانية فهو من أهل التوحيد. وكلمة “لم يعمل خيرا قط” يحمل على التكاسل في الأحكام العملية دون الاعتقادية، وإلا فخوفه من ربّه عز وجل مفهوم من النص.

وذات المعنى أيضا مفهوم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ رجلا لم يعمل خيرا قط، وكان يداين النّاس فيقول لرسوله: خذ ما تيسّر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله تعالى يتجاوز عنا. فلما هلك قال الله عز وجل له: هل عملت خيرا قط؟ قال: لا إلا أنه كان لي غلام، وكنت أداين الناس، فإذا بعثته ليتقاضى قلت له: خذ ما تيسّر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا. قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك»[ii].

وكذلك يفهم من حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزع رجل لم يعمل خيرا قط غصن شوك عن الطريق، إما كان من شجرة فقطعه وألقاه، وإما كان موضوعا فأماطه فشكر الله له بها فأدخله الجنة»[iii]. فهؤلاء نجَوا ولم يعملوا خيرا قط أو عملوا عملا يسيرا بعد دخولهم في الإسلام، أي بعد توحيدهم باعترافهم بوحدانية الله سبحانه.

كما يظهر المعنى ذاته من حديث عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره: «أنه لما حضرت الوفاة أبا طالب، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: ”يا عمّ، قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله ” فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم، هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”أما والله لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك’،’ فأنزل الله تعالى: ”وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ” التوبة:114[iv].

رجا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسلِم عمُّه الذي حمى الدعوة في شخصه عليه الصلاة والسلام، ويكون إسلامه وهو في لحظات حياته الأخيرة بقول لا إله إلا الله. ولم يبق له من العمر زمن يعمل فيه خيرا قط، وما أسلفه من فضل على الدعوة فقد كان منه وهو مشرك وهو في ميزان الشرع غير صحيح. ولو أنه نطق بها لكان من أهل التوحيد الذين سينالون الشفاعة برحمة الله تعالى يوم القيامة.

[i] مسند أحمد بن حنبل، المرجع نفسه، رقم الحديث: 3786، ج6، ص326-328.

[ii] – النّسائي رقم الحديث:4694. ج7، ص318.

[iii] سنن أبي داود، المرجع نفسه، رقم الحديث:5245.ج4، ص362.

[iv] – صحيح البخاري، المرجع نفسه، رقم الحديث: 1360، ج2، ص95.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *