ما كنت في يوم من أيام العمر مخترعا أو حتى ملما مواكبا للجديد في ميدان الاختراع وآخر صيحات الابتكار، الذي يغزو جديد منتوجه سوق التنافس العلمي والتدافع المعرفي في سياق السباق المحموم نحو درجات الريادة العالمية وما يلزم منها من أوجه الهيمنة والغطرسة وتكريس الغلبة والتفوق على كل المستويات..
بدء بالثقافة التي تعني عندهم الفكر والنظر وتعني عندنا اللهو والشطح والغناء، وانتهاء عند مزية إعداد العدة والعتاد الرادع الذي يعني عندهم صناعة القتل وتطوير أسلحة الدمار الشامل، كما يعني عندهم اختراع عقاقير التطبيب وأمصال الحياة، ويعني عندنا مرة أخرى نهج أسلوب التبعية العمياء التي تحصرنا في زاوية الزبونية المستهلكة لفتات وخردة ما أكل عليه دهر الاختراع عندهم، وتبول عليه رجال تلك العدة والعتاد في الجهة المقابلة، وأخذناه منهم في غير دبغ أو استحالة نجسا ركسا ولم نكن فيه من الزاهدين من جهة الغبن الواقع بين المدفوع والمعروض.
ولست بهذا أشكل استثناء أو بدعا عن الأهل أو شذوذا عن أصل من أنتمي إليهم في دائرة القطر أي الوطن وفي دائرة الأمة أي الانتساب على مقاس التاريخ لا مقاييس الجغرافيا، بل أنا كنت وما أزال وربما بقيت أنتمي إلى قطر وأمة يشكل فيها المغنون واللاهون واللاعبون والداعرون ولصوص الأخلاق وتجار الرذيلة المضاربون في الأرض والعرض الأصل والقاعدة، وينسبون في غير حياء إلى النجومية في دلالة رمزية تتحدث عمن أنا ومن أنتمي إليهم في دائرة القطر والأمة.
وليس في هذا الجلد والتعزير السادي أي إفراط في موضع تفريط أو غلو في مكان توسط واعتدال، فقد يموت العالم بعدما عاش بيننا نكرة مقصودة فلا تشيعه إلا الفئة القليلة ممن قاسموه خبز الغربة وشقاوة الاغتراب، بينما قد تتعطل الحركة وتحبس الأنفاس وتنكس الأعلام ويعلن الحداد لأيام نحسات مع أول خبر ينعي موت فنان ثمل على خشبة لهو ومجون، أو انتحار ممثلة في شقة مشبوهة بعد تأدية وصلة تشريف بضابط المعتمد من المعايير في باب التكليف المفروض علينا في غير اعتراض أو حراب ذكية.
وقد ينفق الدرهم اليتيم على طبع كتاب هادف فينفخ في كمه النافخون ويتذمر من ثقل خفيفه المترفون، بينما يصب المال العام وينزف مخزونه على مشاريع هز الأرداف وانحناءة الأكتاف الراقصة فيتعالى ضجيج المباركة وتجرم أصوات الاعتراض والممانعة والامتعاض.
وفي غمرة هذا الفصام النكد تجود علينا الإحصائيات العابرة للحدود بأرقام تؤرخ وتوثق بالصوت والصورة والرائحة لأمراضنا المعدية محليا وأوجه معاناتنا مع الجهل والأمية، مؤثثة للمشهد والوضع المأساوي الذي نتذوق مرارته في غير أمل مأمول ولا رجاء مرجو من مشاريع الترقيع الرباعي والخماسي الموقعة من طرف ذهنية الفكر العلماني وطغمته المتسلطة على رقابنا.
فتحكي هذه الإحصائيات عن أرقام تفيد كما جاء على لسان مهندسي صندوق التنمية البشرية بكون الأمة الإسلامية هي أكثر الأمم تخلفا في التعليم، وكيف أنه في الوقت الذي ينشر في المجلات العلمية العالمية حوالي 260.000 مقالة علمية لا تتعدى نسبة نصيب العالم الإسلامي منها واحدا في المائة، ناهيك عن بعض التقارير المتجردة في إنصاف والتي أنجزت محليا وأفادت بأن ما أنفق من مليارات الدولارات في المجال العلمي على المستوى النظري وكذلك التجريبي، لم يحقق السقف الأدنى من التنمية المنشودة.
بل على عكس كل التوقعات والأماني الزائفة التي رفع ويرفع شعارها الفصيل العلماني المتحكم في عملية الإنفاق وثنائية المقال النظري والفعل التجريبي ازداد الفقراء فقرا والمعدومون جهلا وجهالة، وتغولت ظواهر الأمية لتنطوي في جوف ظلاميتها أجيال متعاقبة.
وليس هذا بمستغرب عن مشاريع ترقيعية لم تأخذ بسنن الله الكونية والشرعية في مقاصد التمكين ومنشود الاستخلاف وإعمار الأرض كما عمرها الأولون السابقون من ذلك الجيل الفريد من تاريخ هذه الأمة الموصولة بالله، وفي هذا الخصوص يقول الدكتور التويجري متحدثا عن حقيقة ارتفاع نسبة الأمية بين صفوف أبناء الأمة «إن مرصد الإسيسكو لمحو الأمية سجل زيادة في نسب الأمية في بعض الدول الإسلامية مما يشكل إيذانا باستفحال الأمور».
وليس هذا بمستغرب ولا غريب عن مشاريع لم تعتني بكرامة الإنسان وحقوقه ولم ترب فيه القيم والأخلاق السامية والحضارية.
مشاريع لم تتجاوز عتبة رفع الشعارات إلى مقصود تنزيلها عبر خطط وبرامج من شأنها الاستجابة لحاجيات الأمة وضرورات ثوابتها.
مشاريع لم تعمل على وضع البرامج الهادفة والمناهج العلمية القادرة على الرفع من المنسوب العلمي والنوعي لجامعاتنا ومعاهدنا التعليمية والتربوية.
مشاريع لم تستثمر عناصر المتاح ولم تستشرف أبدا أفق الوصول إلى المطلوب أصالة من اعتماد على الثروة الذاتية وعدم إغفال عملية الاستفادة مما راكمته تجربة الآخر بضابط أن الحكمة ضالة المؤمن.
مشاريع لم تهتم بقضية الوحدة ومفاهيم الأمة، بل كل ما سجل من ركز في هذا الصوب لم يخرج عن كونه كان محاولة هنا أو هناك وئدت قبل الاستهلال الأول، وحلّ محلها كل مشروع يكرس الفرقة ويذكي روح الصراع بين أعضاء الجسد الواحد بالمفهوم النبوي الحكيم.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه عند هذه النقطة هو الاستفسار عن قضية هل هذا الجهل والتخلف الذي يطوق رقابنا ويؤبد مشروع تبعيتنا العمياء للآخر هو جهل وتخلف طارئ فرضته ظروف وأملته أجندات أم أنه أصل مركوز في فطر أبناء أمة وصفها الله بالخيرية والوسط والشهادة؟
وربما احتجنا في سياق الإجابة عن هذا السؤال وتكييف مقصده مع الواقع الحقيقي للأمة إلى ضرب مثال بحالة من آلاف الحالات التي تحاصر مجهوداتها وتسرق إبداعاتها وتذهب ريحها في واد سحيق، تلك هي حالة الشاب المغربي عبد الله شقرون الذي في جعبته ما يفوق الثلاثين اختراعا لم يستطع أن يسجل منها إلا اختراعين، بينما الباقي من الاختراعات التي شملت الميدان العسكري والمدني رفضت لأنها كما أفاد هو شخصيا في لقاء حواري أجرته معه إحدى القنوات الخليجية جاءت تسبق سياسة التكنولوجيا الدولية بسنوات عدة.
ولنركز على أكبر مشاريعه الذي كان عبارة عن محرك ميكانيكي متعدد الاستعمالات يجمع بين القوة والسرعة والاقتصاد في الطاقة وتصل قوته إلى 250 حصانا حسب التصنيف المتعارف عليه في عالم المحركات الدوارة، وهو نفس المحرك الذي حاولت العديد من الدول الرائدة إنتاجه ولم تستطع بعدما باءت كل محاولاتها بالفشل، تلك المحاولات التي ابتدأت سنة 1960م واستمرت لتتوقف دون إحراز أي نتيجة تذكر سنة 1984م.
وقد تلقى الشاب عبد الله عروضا مغرية من الكثير من الشركات الأجنبية المتخصصة، لكنه في مشهد طوباوي لا يتماشى مع العقلية المركانتيلية السائدة رفض كل هذه العروض التي لن نستحيي إذا ما كشفنا عن قيمة بعضها والذي كان من شركة فرنسية حيث وصل رقم العرض إلى أربع مائة وخمسين مليون أورو مع «امتياز» حمل جواز السفر الفرنسي الأحمر.
وبقي المخترع المغربي مصرا على أن يكون الحاضن ولو في غير مقابل وطنه المغرب أو إحدى الدول المشكلة للفسيفساء السني في المنطقة وأن يكون اسم المنتوج في دائرة المنافسة موقعا بالاسم والرسم العربي الإسلامي «عبد الله موتورز».
وهكذا تأبط عبد الله مشروعه ليطرق الأبواب الموصدة ولينصت إلى الصمت واللامبالاة القاتلة وليكتشف بأنه يشد على حبل من دخان ويعض بنواجذه على سراب بقيعة ويعامل جهات تنحني لمشاريع اللهو والغناء وتنفق الغالي والنفيس على سباقات الكلاب ورهانات خيول القمار حسب المسموح به من الذين راودوه عن نفسه وذهنه وكبر عليهم استعصامه في وقت تنحني هامات بعرض قليل من الزاد مقارنة مع حجم المعروض عليه، وهي التي تعتلي المنابر لتكلم الناس عن الجنة والنار والمعاد.
ويبقى السؤال معلقا عن ماهية المانع الذي يمنع دولة كالمغرب أو الإمارات أو الكويت أو السعودية من تبني هذا المشروع المغري والكفيل بإخراج الأمة من النفق المفروض عليها والذي يحصرها قسرا في صفة الزبون والمستهلك الذي يمارس عليه الغبن في كل صفقة تزيد الآخر غنا وانتعاشا وتزيدنا تبعية ونقصان أهلية؟
ولعل في الإجابة عن مثل هكذا سؤال ألف دلالة ودلالة؛ تحيل مباشرة على معرفة: أكان التخلف في هذه الأمة طارئا مفروضا أم أصلا منشودا ووثنا معبودا؟!