المقدمة الثامنة
في أن العلم المعتبر شرعا إنما هو ما كان باعثا لصاحبه على العمل وكافا له عن اتباع الهوى.
قال الناظم:
معتبر العلم إذا العلم حصل ما كان منه باعثا على العمل
وهـو الـذي يلجـم من حـواه فـلا يـُـرى مـرتـكـبــا هـــواه
«معتبر العلم» هذا من باب إضافة الصفة للموصوف، والأصل العلم المعتبر شرعا، الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق «إذا العلم» استقر في النفوس و«حصل» إدراكه هو «ما كان منه باعثا على العمل» المطلوب شرعا أي العبادة.
«وهو» أي هذا العلم «الذي» يكف و«يلجم من حواه» أي جمعه وأحرزه «فـ» من أجل ذلك «لا يُرى» أي لا يبصر «مرتكبا» ممتطيا -راكبا- «هواه» كيفما كان، والهوى والشهوات والملذات هو ما تحكم به الأمزجة النفسية المجردة عن الهدى والرشاد.
وجـاء مدحـه على الإطـلاق مـن جـهـة الشـارع باتـفــاق
ورتـب العلـم ثـلاث تعتـبــر فمنها الأولى للذي فيـه نظـر
وهو على التقليد بعد لم يزل فذا الذي له دخول في العمل
والعلم المطلوب شرعا هو ما كف عن الهوى وحكم بضبط النظر والعمل على السبيل القويم المأخوذ من الكتاب والسنة؛ «و» هذا العلم هو الذي قد «جاء مدحه على الإطلاق» أي الثناء عليه «من جهة الشارع باتفاق» بين أهل العلم، فما مدح العلم شرعا إلا قصد به هذا الصنف، وهذا بإيجاز هو العلم الممدوح المطلوب شرعا.
وأما الطالبون للعلم المحصلون له على الجملة فهم على ثلاث مراتب في ذلك، أوردها الناظم بقوله «ورتب» أهل «العلم» في طلبه وتحصيله هي «ثلاث» وهي كلها «تعتبر» في هذا الشأن، «فمنها» الرتبة «الأولى» وإنما وصفها بأنها الأولى -على ما يظهر- باعتبار أن أصل البداية في الإدراك والتحصيل العلمي يكون بها، ومنها، هذه الرتبة هي «لـ» لطالب «الذي» له «فيه» أي في هذا العلم «نظر» وبحث، غير أنه لم يحصل على كماله بعد.
وإنما يخوض فيه باحثا وناظرا «وهو على» درجة «التقليد» فيما يأتي منه من أحكام وما يدر «بعد لم يزل» إذ هو قاصر عما هو أعلى من ذلك، «فذا» أي فهذا الصنف من طلبة العلم هو «الذي له دخول في العمل» بما علمه.
بمقتـضـى تحـمـل التكـلـيـف وباعث الترغيب والتخويف
والعلم بالحمـل هنا لا يكتفـي بـل لمـقـو زائـد قــد يقـتـفـي
إلا أنه لا يدخل فيه وهو متصف بما يتصف به أهل الاجتهاد وكان العلم وصفا من أوصافهم الذين سيأتي وصف حالهم في هذا الشأن -الدخول في العمل- وإنما يدخل فيه «بمقتضى» وحكم وجوب «تحمل التكليف» الشرعي الذي مفاده إلزام النفس ما فيه مشقة وكلفة، «و» بمقتضى «باعث» وداعي «الترغيب» في ذلك العمل، وذلك يحصل بذكر ما في ذلك العمل، من الثواب والأجر العظيم عنده سبحانه وتعالى وما يكون منه من خير ونفع في الدنيا، «و» كذلك بمقتضى «التخويف» الترهيب، وذلك يحصل بذكر ما ورد من الوعيد الإلهي في الترك لما يجب فعله، وفي الفعل لما يجب تركه.
«و» لذلك يصح أن يقال «العلم» وحده «بالحمل» على العمل والعبادة «هنا» في هذه الرتبة والحالة «لا يكتفي» أي لا يضطلع «بل» هو «لمقو» خارج «زائد» عليه «قد يقتفي» أي يتبع، ثم بين ذلك الأمر الخارجي المقوي الزائد على ذلك العلم، فقال:
من زجر أو تعزير أو تأديب دليلـه عـوائـد التجريـب
«من زجر» أي ردع «أو تعزير» وهو الضرب دون الحد، يحكم به لمنع الجاني عن المعصية وردعه عن المعاودة «أو تأديب» بنحو سجن، وقد يكون مراده به هو التعزير بالمعنى السابق، ويكون مراده بالتعزير هو الحد، و«دليله» -أي دليل هذا الذي ذكرته- من أن من كان في هذه الرتبة في تحصيل العلم الشرعي لا يأتي العمل بمجرد علمه وإنما لا بد أن يكون معه في حمله على ذلك هذه الأمور الأخرى التي ذكرت، وبرهان «عوائد» يعني مقتضيات عوائد -جمع عادة- «التجريب» واختبار أحوال الخلق وطبائعهم النفسية، فذلك كله قد أعطى في هذه المرتبة برهانا يقتضي هذا الذي ذكر على قطع.
ثانـيـة رتـبـة مـن قـد ارتـفـع عن رتبة المقلديـن إذ بـرع
في علمي الفروع والأصول من جهة المنقول والمعقول
فـهـؤلاء ربمـا خـف العـمـل عليهم ولم يداخلهم……….
ثم ذكر الناظم الرتبة الثانية فقال: «ثانية» يعني وبعد هذا أذكر الرتبة التي بعد هذه وهي ثانية، هذا ما ظهر لي أن يوجه به ابتداءه بالنكرة هنا، ولا يخفى ما في هذا من التكلف، إذ مقتضى القواعد النحوية ومساق الكلام هو أن يقول: والثانية كما قال والأولى في وصف الرتبة المتقدم ذكرها؛ ويمكن أن يوجه كلامه بجعل ثانية خبرا مقدما وما بعدها مبتدأ مؤخرا، على ما فيه من ضعف وركاكة، هذا شان هذه اللفظة «ثانية»، وأما حال هذه الرتبة فقد بينه بقوله:
«رتبة» ودرجة «من قد» وقف على براهين العلم وكان مستبصرا فيه حسبما أعطاه شاهد النقل الذي يصدقه العقل تصديقا يطمئن إليه، ويعتمد عليه وبذلك «ارتفع عن رتبة» ودرجة «المقلدين» لغيرهم «إذ» تعليلية، أي لأجل أنه قد «برع» أي فاق «في» إدراك وتحصيل «علمي الفروع» يعني الجزئيات كالفروع الفقهية «والأصول» الكليات -كأصول الفقه- سواء «من جهة» إدراك ومعرفة «المنقول» يعني الأدلة النقلية التي تتوقف البراعة في ذلك على العلم بها والإحاطة بأفرادها، وما تقرر بالنظر فيها من أحكام ومذاهب، «والمعقول» يعني الأدلة العقلية التي يعتمد عليها في بناء الأحكام وصوغ القواعد، وأنت خبير بأن الأدلة العقلية تستعمل بحسب حال الموضوع، وفي علم الأصول تستعمل مركبة على الأدلة الشرعية النقلية -كما تقدم ذكره- فلا مناص من العلم بما تقرر في قيمتها المعرفية، وبالطرق التي تسلك في العمل بمقتضاها، ومن يحكمها في أمور الدين، ومن لا يرى ذلك.
ولا يخرج المرء من ربقة التقليد حتى يكون في ذلك كله كما قال الناظم، ومن كانوا كذلك «فهؤلاء» لأجل هذا الذي قام بهم من البراعة العلمية «ربما» -رب هنا للتكثير كما يدل عليه كلام الشاطبي- «خف العمل» الذي تعبدنا سبحانه به «عليهم» خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق الذي عليه أهل المرتبة الأولى «ولم يداخلهم» يعني لم يخالط نفوسهم في هذا الشأن.
يتبع..