أمراضنا الاجتماعية

هناك عوامل ثلاثة تردع المرء عن ارتكاب الرذيلة وتحدوه إلى الفضيلة وهي عوامل قد تجتمع وقد تتفرق في نفسية الفرد، وهي كذاك تقوى وتضعف تبعا للأشخاص، فإذا تكتلت وتضافرت لتمتزج بروح الإنسان جعلت منه مثالا للكمال البشري وليس كل الناس يؤمن بهذا الثالوث وليس هذا الثالوث يجتمع في كل الناس، ولكن اجتماعه ليس بالضروري بحيث إذا انتفى ينتفي الكمال.

تلك العوامل هي العاطفة الدينية والوازع الخلقي (أو الضمير) والضغط الاجتماعي، فلننظر إلى أي حد تقوى تلك الحوافز أو تضعف في نفسية المجتمع المغربي؟ لا شك أن هناك أفرادا تضاءل في نفوسهم الوازع الديني إلى حد أصبحوا لا يتأثرون البتة بهذا العامل كزاجر يكف العقل عن الارتياب، والغرائز عن الانطلاق، والجوارح عن الجموح، فدعاهم ذلك إلى نكران وجوده بالمرة، أو الاستهانة بماله في ميدان الاستقامة من أثر فعال، ومستندهم في ذلك لا يعدو شيئين اثنين: إما كونهم يستدلون باستهتار بعض “رجال الدين” أو بعض أدعياء الطرقية المارقين، وإما كونهم يعتبرون أنه ما دامت نفوسهم مجردة من هذه العاطفة فالعاطفة نفسها لا يمكن أن توجد، وكلا الدليلين ضلال في ضلال، وهذا ما يدعو الكثير من الناس إلى استهوان مناهج الإصلاح التي سلكها السلف من وعظ قد يكون مجردا عما يسميه بعضهم اليوم بالتحليل والتعليل، وإن الذين يرتكبون هذا الأسلوب من الخطباء والوعاظ قد يكونون عاملين على أساس وجود ما نسميه بالوازع الديني الذي لا يكفي لإذكائه والتأثير عليه مجرد التذكير، وهو منهاج ما زال ينتهجه في هذا العصر الذري “رجال الدين” وكبار المفكرين في أوربا.
ولكن المغرب يجتاز اليوم مرحلة نفسية عصبية اجتازتها قبله دول إسلامية كبرى كمصر؛ فاضطرت إلى تغيير الأسلوب لأن الوعظ لم يعد موجها لقوم كاملي الإيمان تكفي في ردعهم آية قرآنية أو حديث نبوي؛ بل إن هذا الشعب -وكم له من نظير في حظيرة الشعوب-، يحتوي على طوائف شتى فيها الملحد الصرف؛ والمتشكك الحيران؛ والمادي الذي لا يستجيب إلى لغرائزه، والطيب النفس النبيل الروح الذي يشك ويماري لا عن عقيدة راسخة ولكن لكونه لم يجد من يهديه ويتدرج بحكمة ولباقة إلى سويداء قلبه، فجل به بصيصا من النور بالبرهان تارة، وبالوجدان تارة أخرى.
فالواعظ الحكيم هو الذي يسعى إلى التأثير بأنجع الأساليب، وهذا يستدعي منه زادا من الثقافة النفسية والاجتماعية لأن المصلح الحق بقدر ما يجب أن يكون ملما بسر الأمراض الاجتماعية بقدر ما ينبغي أن يكون بسيكولوجيا يتحرى مواضع الداء، وينتقي لها أنجع الدواء، محاذرا أن يعدي العضو السليم بما قد يعلق في أداة تشريحه من جراثيم.
ولكن كما أننا لا نريد من المصلح أن يكتفي بتملق شعور الناس، أي باستثارة عواطفهم الدينية والضرب على وترها الحساس، لأن فيهم من لا ينجح فيه هذا الأسلوب، كذلك لا نرضى من المصلح الحق أن يتملق الأهواء وأن يؤدي به الميع أو حب الإغراب إلى الزيغ عن مبادئ الإسلام القويمة، فنحن نحب التجديد ونسعى للتجديد، ولكننا لا نريد أن يتم ذلك التجديد خارج نطاق الروح الإسلامية الناصعة التي لو تقمصناها على حقيقتها لصرنا في قافلة الدول المتمدنة، برأس شامخ وقدم راسخة، ولعمري إن هنالك أمما إسلامية أشد تعلقا منا بأهداب الدين، ومع ذلك فهي من أرقى الأمم وأوفرها تقدما وحضارة.
وبعد، فما هو مبلغ تأثير العاملين الباقيَين: الضمير، والضغط الاجتماعي في إيقاف هذا التيار العنيف الذي يكاد يجرف ما تبقى في نفسياتنا من تراث الفضيلة؟
إننا نرى أن مظاهر الانحلال تزداد وتتضخم مع الأيام، ففي كل يوم يتصدع ركن وينخرق سد حصين، والناس تنظر إلى هذا التصدع وذلك الخرق بعين المتفرج الذي لا تكاد تتفجر غيرته إن كانت له غيرة، إلا عن حوقلة صامتة، وأشد من هذا وأنكى أن الفواحش التي تزري بالكرامة تقترف على قارعة الطريق بمرأى ومسمع من الجميع، ومعنى هذا أن الرادع الاجتماعي يكاد يكون مفقودا عندنا، اللهم إلا في أوساط محدودة ما زال بعض أفرادها يخشون قوارص (الشتائم) نقد المجتمع الذي يعيشون فيه، وقد نجد شبابا وكهولا وشيوخا لهم حاسة اجتماعية بحيث يتحرون أن يلمزوا في وضعيتهم الاجتماعية ويتلافون كل ما عساه أن يمس بكرامتهم في المجتمع، ولكننا نرى أن أساس تلك الحاسة هو الشعور الاجتماعي المتركز على وجود رأي عام يوجه وينقد، ويبني وينقض، ويرفع ويضع، ويتقوض تدريجيا نظرا للمواقف السالفة التي يقفها الرأي العام إزاء المنكرات المتفشية، وكأن أزمة نفسية أناخت بكلكلها الثقيل على روح هذا المجتمع فأخمدت فيه كل غيرة وإباء.
ذلك هو أثر الضغط الاجتماعي في وسطنا -كما رأينا- من الهلهلة والهزال بحيث يتعذر الإخلاد إليه كزاجر فعال عن ارتكاب الموبقات.
..بقي هنالك عامل ثالث وهو عامل الضمير أو الوازع الخلقي الذي من مقوماته البارزة الشعور باطنا بالكرامة والعمل ظاهرا بالاستقامة، فلننظر إلى حد من القوة أو الضعف بلغ ذلك الشعور في وسطنا؟ لعل هنالك مثلا بسيطا قد يكون فاصلا في حل هذا الاستفهام، فنحن نرى كثيرا من أدعياء الاستقامة ودعاتها يقضون نهارهم في البكاء على أطلال الفضيلة ورسومها؛ ثم لا يكاد يجن الليل وترتخي سدوله الكثيفة حتى ينقلبون إلى شخصية جديدة فينهشون الأعراض ويهتكون الحرمات، وينقادون لغرائزهم، ثم يعودون في الصباح إلى مصانعهم المزرية وملقهم الساخر لذلك الشعور الحي الذي ما زال –من حسن حظنا- بصيص منه يتلجلج في النفوس.
على أن هناك ظاهرة أدهى من هذا وأنكى، وهي تباين المقاييس والاعتبارات، وذلك مظهر مفجع لما وصلت إليه فوضى الأخلاق في وسطنا، فهناك أعمال أو خصال ترى طائفة أنها تزري بالكرامة، بينما تعتبرها طائفة أخرى مظهرا من مظاهر التحرر والمدنية، فما هي الوجهة التي تغلب آخر الأمر وتطيع بطابعها الجديد معايير الأخلاق؟
هل الميع والإباحية والمرح، نظرا لكون المتطرفين أنفسهم ينساقون في نهاية الأمر ضمن تيار تستأنس النفوس بمتعه المغرية، والفلاسفة يقولون عن حق -بأنه بقدر ما يغري التعود الجوارح بقدر ما يقل من حدة المشاعر-.
ولعل من أطرف ما يحكونه في هذا الباب قضية ذلك الرجل الذي انتجع الحاضرة فصار “يبول الدم” لما هاله من الفواحش والمنكرات ولكن لم تكد تمر أيام معدودة حتى عاد البول إلى طبيعته، واستأنس صاحبنا بما يجري حوله، ولم يعد يراه بتلك العين التي كان يراه بها من قبل! إن جوهر الفضيلة لا يتغير، والتطور الحق معناه الرجعة إلى الفضيلة في نصاعتها الفطرية.
ذلك هو الداء، فما هو الدواء؟
إن لتهذيب النشء على الفضيلة منذ الحداثة أثرا فعالا في طبع الفطرة بالمثل العليا، ومن مقومات هذا التهذيب إعطاء المثل الكامل للطفل في جميع أطوار حياته، سواء في المنزل أم المدرسة وذلك يتطلب من الأبوين أولا ثم من الأستاذ ثانيا أمثلية لا يعتورُها نقص ولا ميع ولا تمويه، وينبغي كذلك تقويم الجماهير وغرس الفضيلة في نفوسها بواسطة الدروس في المساجد والمعاهد، وتصوير الفضيلة في أنصع مظاهرها، وإبراز سوء مغبة الرذائل وأهلها، والصحافة والإذاعة يجب أن تسهما في هذا الباب، وكذلك الخطب الجمعية التي يجب أن تتطور ويتطور أصحابها.
ولعل تلك الوسائل ستتمخض -إذا هي تضافرت- عن إيجاد رأي عام يكون هو المقياس القار والعامل في تكوين جو خلقي ممتاز.
مقال لعبد العزيز بن عبد الله بتصرف يسير
مجلة دعوة الحق العدد السابع السنة الرابعة
ذو القعدة 1380-أبريل 1961

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *