مسار إصلاح التعليم بالمغرب من الحماية إلى اليوم (2) ذ. محمد ايت العربي

لقد لخص هاردي المعالم الاستعمارية في التعليم الكولونيالي الطائفي بالمغرب في هذه الحقبة في عبارات واضحة، وهو يخاطب المراقبين المدنيين بفاس عام 1920، بقوله: «… أما عن المواد التي ستتخلل هذا التعليم التطبيقي، فهي اللغة الفرنسية التي بواسطتها سنتمكن من ربط تلامذتنا بفرنسا (…) إن أكثر ما يجب أن نهتم به هو الحرص على ألا تصنع لنا المدارس الأهلية رجالا صالحين لكل شيء ولا يصلحون لأي شيء. يجب أن يجد التلميذ بمجرد خروجه من المدرسة عملا يناسب التكوين الذي تلقاه حتى لا يكون من جملة أولئك العارفين المزيفين، أولئك اللامنتمين طبقيا، العاجزين عن القيام بعمل مفيد، والذين تنحصر مهمتهم في المطالبة، هؤلاء الذين عملوا في المستعمرات الفرنسية الأخرى، وفي غيرها من المستعمرات على جعل التعليم الأهلي مصدرا للاضطراب الاجتماعي»(1).
بل كان من دهاء سياسة سلطات الحماية التعليمية آنذاك أن حرصت على الاهتمام بالتعليم العتيق والأصيل المقترن بجامع القرويين، وليس ذلك من باب حفظ حق المغاربة في إتقان العلوم الشرعية واللغوية وغيرها، وإنما من باب الخوف من هجرة هؤلاء إلى مصر والتشبع بالأفكار التي كان ينادي بها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا. وقد قال المستر بيكي: «لقد احتفظت الحماية دون تردد بالتعليم القائم في هذه المساجد، وعملت على ترميمه، وعلى إعادة جامعة فاس إلى سابق إشراقها (…) ومن المؤكد أنه من مصلحتنا ألا يذهب المغاربة للبحث عن هذا النوع من التعليم الإسلامي العالي في الخارج، كالجامع المشهور، جامع الأزهر بالقاهرة»(2).
المطلب الثاني: هيكلة النظام التعليمي الكولونيالي
لأن المستعمر الفرنسي خطط من خلال نظامه التعليمي الذي أرسى معالمه في المغرب للأهداف المذكورة آنفا وأخرى قد تخفى، كان لابد من التفكير في استراتيجية مناسبة لتنفيذ تلك النوايا الاستعمارية التحكمية؛ ولذلك اعتمد نظاما تعليميا لا يخدم إلا مصالحه هو، لكن تحت شعارات تربوية براقة من قبيل تعليم المواطنين ومحو الأمية وغيرهما. فتبنى لأجل ذلك هيكلة تعليمية تميز بين تعليم فئة النخبة (المدارس الأوربية، الفرنسية اليهودية) وتعليم الجماهير (مدارس أبناء الأعيان، م. الحضرية، م. القروية، م. البنات).
فكانت الهيكلة كالتالي(3):

هذه الهيكلة الاستعمارية المغرضة تضمنت عدة مدارس(4)، كل منها مفتوح في وجه فئة بعينها، ويهدف إلى تحقيق غايات تم التخطيط لها مسبقا. فالمدارس الأوربية كانت مخصصة لأبناء الجالية الفرنسية، وتم إدماج أبناء الجالية اليهودية فيها سنة 1924؛ ومدارس أبناء الأعيان والثانويات الإسلامية خصصت لأبناء الأعيان والوجهاء وكبار الموظفين والتجار والملاكين المغاربة، الذين يتلقون فيها تعليما يرسخ في أذهانهم الاقتناع بضرورة الوجود الفرنسي في المغرب. فيما كانت المدارس المهنية مفتوحة في وجه أبناء العمال والفلاحين المنحدرين من المناطق القروية وبعض المناطق الحضرية، قصد تلقي التكوين اليدوي والحرفي. وتبقى المدارس الفرنسية البربرية التي كانت فرنسية بالمعلمين، بربرية بالتلاميذ(5)، والتي كانت تستهدف الاستلاب اللغوي والتهجين الديني. فإن التعليم في هذه المرحلة تجلت طائفيته من خلال أبعاد ثلاثة، فقد سعى إلى التمييز بين المغاربة وغيرهم، وميز بين المغاربة النخبة والجماهير، وكذلك بين المغاربة العرب والأمازيغ.
هذا النمط التعليمي الفئوي الذي يميز بين تعليم يفرز نخبا سياسية واقتصادية من جهة، وتعليم جماهيري، إنما هو تعليم يكرس -بلا شك- الهشاشة الاجتماعية والعوز الاقتصادي(6)، ويعيد إنتاج الطبقية كي يخدم سياسة سلطات الحماية. فإن هذه المشاريع الإمبريالية في المغرب تسير كلها في اتجاه خدمة مبدإ استراتيجي واحد ألا وهو «فرق تسد»؛ هذا المبدأ الذي جسده المستعمر في إصدار ما سمي بالظهير البربري في 16 ماي 1930، ذلك الظهير المغرض الجائر الذي كانت الغاية منه إشعالَ حرب إثنية لغوية بين مختلف فئات المجتمع المغربي حتى يخلو الجو لتمرير كل المخططات الاستعمارية.
إن ذلك التنظيم التعليمي الذي فرضته سلطات الحماية، يجعل غاية أمل أبناء الطبقات الدنيا من الجماهير أن يرثوا مهنة آبائهم في الدرك الأسفل من الهرم. فيما يظل أبناء الفئات المحظوظة يترقون في درجات الأرستقراطية. هذه السياسة الماكرة لم تكن أبدا لتغفل عن تحقيق مصالح واضعيها والمخططين لها؛ فقد صرح بول مارتي في كتابه الصادر سنة 1925 تحت عنوان «مغرب المستقبل» قائلا: «يجب ألا نصنع في المغرب، سنة بعد أخرى، وبشكل مطرد، وعلى حساب مصلحة المجتمع المغربي ومصلحة الإمبراطورية الفرنسية، رجالا ينمي فيهم التعليم أذواقا وحاجات وآمالا لن يقدروا هم على إرضائها بأنفسهم، ولن تقدر الحماية ولا المخزن ولا المستعمرة ولا الاقتصاد المغربي على تحقيقها (…).فكيف لا يجزم المرء بأن هذه القدرات التي ستبقى دون عمل ستنقلب ضد مصلحتها وضد مصلحتنا نحن؟ ولهذا فإنه من المستحيل -بعد الذي قلناه- أن يخرج المرء بنتيجة غير النتيجة التالية: إن زبناء مدارسنا الثانوية ومدارس أبناء الأعيان، يجب أن يكونوا من هذه النخبة الاجتماعية التي يقبلها الشعب ويحبها ويحترمها…»(7).
لقد سعت فرنسا من خلال مشروعها الاستعماري في عهد الحماية بالمغرب، إلى إخضاع المغاربة وضمان تبعيتهم لسياستها على كل الأصعدة ومنها التعليمي، بل وحرصت على صياغة وتشكيل عقولهم بكل الوسائل، قال هاردي مخاطبا المراقبين المدنيين بمكناس المغربية سنة 1920، وموجها إياهم إلى بسط السيطرة على المناطق التي كانوا يقودونها: «إن الرؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام، يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان، وإذا كانت هذه المهمة أقل صخبا من الأولى، فإنها صعبة مثلها، وهي تتطلب في الغالب وقتا أطول»(8).
إلا أن المحاولات التي بذلتها فرنسا في عهد الحماية، والتي استهدفت من خلالها بسط هيمنتها على شتى المجالات سياسيا، واجتماعيا، وثقافيا، واقتصاديا، لم تنجح -مع جديتها وصرامتها- في إخماد صوت الحركات الوطنية المطالبة بالتحرر والتعبير عن توقها الحار للاستقلال. إذ لم تتوقف جهود الوطنيين في مختلف بقاع المغرب عن التخطيط والسعي لانتزاع حلم الحرية، مسترخصين في ذلك بذل كل نفيس. وبعد طول مقاومة تأتى للمغرب استقلاله سنة 1956، لتنتقل الدولة المغربية الفتية من مرحلة المقاومة والدفع إلى مرحلة البناء والتأسيس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(1) محمد عابد الجابري، التعليم في المغرب العربي، دار النشر المغربية، الطبعة الأولى 1989، ص. 18.
-(2) المرجع نفسه، ص. 19.
-(3) عمر التاور، مجلة المدرسة المغربية، العدد: 6 فبراير 2014، ص. 46.
-(4) أحمد لعمش، التوافق الاجتماعي لتلاميذ التعليم الابتدائي، منشورات مجلة علوم التربية، الطبعة الأولى 2013، ص. 12-13.
-(5) محمد عابد الجابري، رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية، دار النشر المغربية، ط. 1977، ص. 147 وما بعدها.
-(6) عمر التاور، مجلة المدرسة المغربية، العدد: 6 فبراير 2014، ص. 47.
-(7) محمد عابد الجابري، أضواء على مشكل التعليم بالمغرب، ص. 22-23.
-(8) محمد عابد الجابري، التعليم في المغرب العربي، ص. 17.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *