ليس من الهدي النبوي طلبُ المشقة في التعبد
إن من الخير الذي يتضمنه الهدي النبوي في تعجيل الفطر وتأخير السحور؛ أنه يسهم في المحافظة على سلوك التدين بمنهاج الوسطية والاعتدال؛ وترك الغلو والتنطع الذي قد يتوهم البعض أنه من الدين؛ وأنه مطلوب ومرغب فيه لأن فيه تعذيب النفس، وتعمد طلب المشقة.
وتعمد طلب المشقة في التعبد خطأ:
قال العلامة شهاب الدين القرافي رحمه الله تعالى: “الأجر على قدر تفاوت جلب المصالح، ودرء المفاسد؛ لأن الله عز وجل لم يطلب من العباد مشقتهم، لكن الجلب والدفع. (يعني جلب المصالح ودفع المفاسد).
وقوله صلى الله عليه وسلم: “أفضل العبادات أحمزها“[1] و”أجرك على قدر نصبك“[2].
لأن ما كثرت مشقته؛ قل حظ النفس منه، فكثر الإخلاص فيه، وبالعكس، فالثواب في الحقيقة مرتب على الإخلاص، لا المشقة”اهـ[3].
وقد وضّح الشاطبي هذا المعنى بقوله: “الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف، وبها حصل العمل المكلف به، ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصودة؛ لا أنها مقصودة مطلقا.
فرتّب الشارعُ في مقابلتها أجرا زائدا على أجر إيقاع المكلف به، ولا يدل هذا على أن النّصَب مطلوب أصلا.
ويؤيد هذا؛ أن الثواب يحصل بسبب المشقات وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب، كما يؤجر الإنسان ويكفر عنه من سيئاته بسبب ما يلحقه من المصائب والمشقات، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: “ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله به من سيئاته“اهـ[4].
فقه مواصلة الصيام:
q فتحَت السُنة للصائم بابا للاجتهاد المشروع؛ فمن أحب أن يواصل صومه بعد المغرب، شُرع له ذلك إلى السَّحَر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر»[5].
فالسُّنة لا تشجع على هذا الفعل؛ لكن لا تمنع منه ذوي النفوس القوية والهمم العالية الذين يجدون راحة ومتعة في الاستكثار من عبادة الصيام بتمديد أجله اليومي.
ومع ذلك تضعُ لهم حدا لا ينبغي تعدّيه؛ فلا يجوز للمسلم أن يمتنع عن الطعام والشراب لأكثر من 24 ساعة.
وكون هذا التعبدُ غير مرغب فيه في السنة؛ نفهم منه أنه لا ينبغي الإكثار منه.
أما الهدي النبوي في الوصال؛ فهو هنا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشرع الاقتداء به فيه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم؛ فقال له رجل: إنك تواصل يا رسول الله؟
قال: “وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني“[6].
وفي هذا دليل على القوة النفسية الهائلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان تعلُّقُ قلبه بربه تعالى قد بلغ درجة تعوضه في بعض الأحيان عن الاحتياجات الجسمية.
—————————————–
[1] قال السيوطي: “لا يعرف”.
[2] رواه الحاكم، وأصله متفق عليه.
[3] قواعد المقري (2/410-411).
[4] الموافقات (2 / 220). والحديث متفق عليه.
[5]– متفق عليه.
[6] متفق عليه.