من المعاني التي تستوقف المتأمل في أحكام الباحث عبد الحكيم أبو اللوز على السلفية (التقليدية)؛ حرصه الشديد على إلصاق وصف العنف بها والذي بلغ إلى درجة اتهام السلفية بالتكفير!!
ومن ذلك قوله: (.. يشكل مبدأ التوحيد الخلفية التي تقاس عليها شرعية كل التصرفات والمواقف والأفعال والمقولات حتى ولو لم تكن بالضرورة دينية، فأي فعل من التفكير والفعل لا ينطلق من التوحيد هو نوع من عبادة الذات، وبذلك تضع السلفية المسلم أمام طريقين لا ثالث لهما؛ فإما أن يكون سلفيا أو لا يكون مسلما بإطلاق) !!!(1)
وقد اشتمل هذا الحكم على أخطاء جماعها: الكذب الصريح والجهل وسوء الفهم؛ وتوضيحه فيما يلي:
الأصل في بناء الأقوال والأعمال على مبدأ التوحيد ما تقرر في الشرع الحنيف وأجمع العلماء على كونه مقاما تعبديا أسمى؛ وهو استحضار النية الحسنة عند كل عمل ولو كان مباحا؛ فالعبد قد يثاب عليه إن كانت له فيه نية حسنة كما يدل على ذلك الحديث التالي:
عَنْ أبي ذَرٍّ رضي الله عنه: أنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: “.. وفي بُضْعِ أحَدِكُم صَدقَةٌ”. رواه مسلم، وفي رواية: “ولك في جماعِكَ زوجتك أجرٌ”.
قال النووي: “وفي هذا دليل على أنَّ المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه، أو إعفاف الزوجة، .. أو غير ذلك من المقاصد الصالحة” . (2)
فهذا مقام رفيع يفتح للعبد أبواب الحسنات، ولم يقل عالم سلفي أنه واجب على الإطلاق، وأن من لم يستصحب نية التقرب في كل فعل فهو مشرك وقع في (نوع من عبادة الذات)!
ولا يخفى على القارئ الكريم ما في قول الباحث: (فإما أن يكون سلفيا أو لا يكون مسلما بإطلاق)، وأن هذا الحكم الجائر على السلفية لا وجود له إلا في ذهن أبو اللوز؛ وإلا فقد تقرر في المنهاج السلفي وأجمع السلفيون على عد الفرق المبتدعة (المنحرفة عن طريقة السلف) من أهل القبلة؛ كالخوارج والنواصب والمعتزلة وغيرهم(3) ، كما أنهم أجمعوا على تحريم التكفير بالذنوب والمعاصي، وكلامهم في هذا كثير معروف؛ ومن ذلك قول ابن تيمية (4) :
“وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير “المرجئة” و”الشيعة” المفضلة ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، .. ومنهم من لم يكفر أحدا منهم إلحاقا لأهل البدع بأهل المعاصي، قالوا: فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحدا بذنب، فكذلك لا يكفرون أحدا ببدعة” (5).
وقال: “لا يجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه ولا ببدعة ابتدعها ـ ولو دعا الناس إليهاـ كافرا في الباطن، إلا إذا كان منافقا.
فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول وما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلا، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالا للأمة وتكفيرا لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآيات عنهم بذلك في غير هذا الموضع.
وكذلك سائر الثنتين وسبعين فرقة، من كان منهم منافقا فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقا، بل كان مؤمنا بالله ورسوله في الباطن، لم يكن كافرا في الباطن، وإن أخطأ في التأويل كائنا ما كان خطؤه؛ وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون به صاحبه في الدرك الأسفل من النار. ومن قال: إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منه يكفر كفرا ينقل عن الملة، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة”اهـ (6)
وقد علم أن المبتدعة هم الذين يكفر بعضهم بعضا؛ كالقدرية والجبرية، والروافض والنواصب، كما علم أن الفرق التي تكفر المسلمين هي: الخوارج والروافض والمعتزلة، أما أتباع السلف فهم أبعد الناس عن ذلك كله، وإنما أتي “أبو اللوز” من جهله بمقالات الإسلاميين.
وقريب من الحكم المتقدم وصف الباحث للسلفيين بالعنف الرمزي، وقد فسر ذلك بقوله: (حتى ولو لم تكن الحلول التي يتبناها هذا التيار ثورية بالمعنى المادي؛ إلا أنها كذلك من الناحية الرمزية، فالشعور بابتعاد المجتمع عن الدين الصحيح يؤدي إلى تفاديه للعيش على شكل طوائف منعزلة من حيث وجودها الرمزي) .(7)
وهنا يظهر إصرار الباحث على إلصاق تهمة العنف بالسلفيين ولو بالخرص والتخمين ولي عنق الحقيقة موظفا كلاما متناقضا.
وقد كتم حقيقة يعرفها جيدا عن السلفيين؛ وهي اندماجهم الاجتماعي المتميز؛ فإنهم متواجدون في كافة مناحي المجتمع ومرافقه إلا أوكار الفساد والانحراف، وفيهم الحرفي والتاجر والطبيب والمهندس والمعلم والأستاذ والإداري والعاطل عن العمل …إلـخ، فهم جزء لا ينفصل عن المجتمع، وهم أبعد الناس عن التقوقع والطائفية والعزلة المذمومة، وإنما تجمعهم نسبة شريفة، ألا وهي الانتساب في طريقة التدين إلى السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المرضيين، ومنهم الإمام مالك (8) ؛ قال ابن تيمية: “ولا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك بالاتفاق”.
ولا أظن أنه غاب عن “أبو اللوز” ما كان يسمعه في دروس السلفيين من تردادهم قول النبي صلى الله عنه وسلم: “المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس و لا يصبر على أذاهم” (9).
فالشعور بابتعاد المجتمع عن الدين الصحيح (10) عند السلفيين يولد في قلب الداعية السلفي الرحمة والشفقة لحال من تنكب الصراط المستقيم، ويحفزه لبذل مجهوده لهداية الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا يحمله على الاعتزال المذموم كما زعم الباحث.
ويبقى هذا الشعور نسبيا وليس مطلقا، وقد نهي المسلم أن يقول: “هلك الناس”، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره” .(11)
وليت شعري هل يصح أن يوصف بذلك الوصف الكاذب (العيش على شكل طوائف منعزلة) من يشارك في بناء مجتمعه بلبنات الصلاح والاستقامة، ويعتزل مجالات الفساد من ربا وقمار وزنا ومعاقرة الخمور؟! وهل هذا مناط ذم أم مناط مدح؟! وليسأل الباحث من يشاء من العلماء، وعلى رأسهم علماء الدولة الأجلاء أعضاء المجالس العلمية وغيرهم عن حكم هذا الاعتزال، وسيعلم من الجواب أنه اعتزال واجب أمرت به النصوص القرآنية والحديثية من مثل قول الله تعالى: “وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” سورة الأنعام، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر” .(12)
وأخشى حينئذ أن يشعر الباحث بضرورة وصف القرآن والسنة والعلماء بالعنف الرمزي …!
[1] دفاتر وجهة نظر/15/ص114
[2] شرح صحيح مسلم 4/100.
[3] وفي الجهمية خلاف معروف.
[4] إمام محقق مجدد، معتمد عند السلفيين الذين جعلهم الباحث مجال دراسته.
[5] مجموعة الفتاوى 3/219.
[6] المصدر نفسه 7/138-139
[7] دفاتر وجهة نظر/15/ ص120 و121.
[8] وهي التي تدين بها المغاربة منذ عرفوا الإسلام، وهي طريقة الإمامين مالك والأشعري، وما يخالفها من طرقية وعقلانية منسوبة إلى الأشعري دخيلة على المغاربة، فرضها عليهم: محمد بن تومرت في القرن السابع؛ وقد شرحت هذه الجملة في كتاب: [السلفية في المغرب ..].
[9] رواه أحمد والترمذي.
[10] ابتعاد أكثر الناس اليوم عن التدين حقيقة لا يكابر فيها منصف.
[11] رواه الترمذي وحسنه.
[12] رواه أحمد.