من مظاهر فساد القلوب طارق برغاني

القلب منبت النوايا ومنطلق الأعمال الصالحة منها والفاسدة، فما يظهر للعبد من أمور دينية أو دنيوية إلا وتُستعرض على القلب ابتداء فإن استقرت فيه تمكنت من النفس تزكية أو تدسية واستحوذت على سائر الجوارح فعالا صالحة أو فاسدة، تجلت في سلوكات الفرد ومعاملاته، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِى أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِى الْقَلْبُ” البخاري:52.
ومظاهر فساد القلوب كثيرة ذكرها القرآن الكريم ووضحتها السنة النبوية قصد اتقاء شرها والحذر من الوقوع فيها وسدا لبواعثها.
الكفر:
وفيه الإنكار والجحود، وتغشية الحقيقة الثابتة بالآيات البينات والمعجزات الصادقات، بالمغالطات المبتدعة والأباطيل المختلقة، وهذا من فساد القلوب وعماء البصائر والأبصار، “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” البقرة: 7-8. ومن أمثلة ذلك ما شاهده بنو إسرائيل من عظائم المعجزات، كشق البحر ورفع الجبل ومسخ طائفة منهم قردة وخنازير، وإحياء القتيل بالضرب ببعض البقرة، وانبجاس اثنتا عشرة عينا من الصخر وغيرها، فما أغنى عنهم مما عاينوه من المعجزات شيئا، بل غشاوة الأبصار والختم على القلوب حالا دون الاتعاظ وصرفاهم عن الاعتبار.
خداع الله والمؤمنين:
وهو ضرب من ضروب النفاق وصفة من صفات المنافقين، لأن صاحبه يضمر في قلبه خلاف ما يظهر للناس، “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ” البقرة:8-10، وفئة هذا الضرب أخطر ما يكون على المؤمنين من غيرهم، لمخالطتهم لهم ومعاشرتهم إياهم، واطلاعهم على أسرارهم ومعرفتهم لخططهم وأهدافهم، وهم في الخفاء يكيدون لهم ويخدعونهم ويضعون أيدهم في أيدي أعداء الدين ويوالون خصومه، ولشديد الأسف فقد ابتليت أمة الإسلام في زماننا هذا بكثير من هؤلاء المخادعين من أهل النفاق والمكر، في شتى المجالات الفكرية والسياسية والإعلامية، يدَّعون الإسلام علنا ويبثون سموم الفرقة والفساد سرا، يقول الله عز وجل في هؤلاء: “ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ” المنافقون:3-4.
الإفساد في الأرض وقطع الرحم:
مرضى القلوب يسعون في كل فرصة إلى الفساد وإهلاك الحرث والنسل، ويخالفون بأعمالهم ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز من صلة الأرحام وابتغاء الإصلاح والألفة والاتحاد، فهم دعاة للتفريق بين المؤمنين، ولاة للتخريب والهدم، “فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” محمد:22-24.
الغفلة واتباع الهوى:
ومنه البعد عن ذكر الله عز وجل وهجر كتابه قراءة وتدبرا، ونسيان ما أوتي من آيات، وما علم من أحاديث، وما شاهد وسمع من عظات، فما وجد كل ذلك في قلبه من حظ بل كان دليله ومرشده هواه، طريقه الغفلة والضياع، فقلب هذا أجوف خواء، خرِب لا يرتجى منه خير، طاعته ومصاحبته مهلكة في الدنيا والآخرة، “وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا” الكهف:28.
الانشغال بسخف الأمور:
يُعرِض مرضى القلوب عن الحق إذا جاءهم، ويأخذونه مأخذ الاستهزاء والازدراء، وتنصرف قلوبهم إلى تفاهات القضايا، وسفاسف الأمور، فتجدهم يمجدون المغنيين والراقصين والممثلين ولاعبي الكرة، ولا يحملون هموم الأمة بالبحث عن سبل تقدمها والارتقاء برفعة أخلاقها، والنصرة لدينها وإحياء سنة نبيها والاحتكام لكتابها، والنجدة لمستضعفيها، والاعتراف بمفكريها المنصفين وعلمائها الراشدين ومخترعيها الملتزمين، “بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ” المومنون:63. “هاتوا لنا جميع الرسامين والممثلين والمغنيين والراقصات والراقصين، ثم احشدوهم جميعا وانظروا هل يردون عنا خطر قنبلة ذرية، أو صاروخ موجه؟” مصطفى السباعي، هكذا علمتني الحياة، ص:109-110.
الإنكار المفضي إلى الاستكبار:
ويلحق هذا المظهر بما تقدم ذكره في وصف قلب الكافر، لأن أصل الكفر محاولة للتغطية على الحق وسعي لإخفائه وتغطيته، وهذا المسعى يعكس غالبا صورا لإنكار القلب المفضي إلى الاستكبار والترفع على الحق المتمثل فيما جاء به الأنبياء والرسل من الوحي، ومشاهد ذلك كثيرة في القرآن الكريم عن حال استكبار الكفار على أنبيائهم بعد دعوتهم إلى التوحيد، “إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ” النحل: 22-23.
حب الحياة المؤدي إلى الوهن:
وهي نبوءة نبوية أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، عن حال المسلمين وما سيؤولون إليه من تعظيم المادة والركون إلى الملذات، والإسراف في الكماليات والاجتهاد في التكاثر المذموم في الملبس والمأكل والمسكن، والحرص على الحياة وكراهية الموت، وكلها مظاهر صارت للأسف شائعة في عصرنا، منتشرة بيننا نسفت كل معاني الرحمة والمودة والتآزر والثقة والنخوة، أفسدت القلوب بأمراض الخنوع والوهن والجبن والمهانة، قطعت حبال الصلة بالخالق والتفكر فيما بعد الموت، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ، كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ قَالَ: قُلْنَا وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ” صحيح الجامع: 8183.
ربنا أصلح قلوبنا وصنها من كل ما فيه إفساد لها.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *