إن الذي يعرف أثر الكلمة وخطورتها، يحتاط لها وينزلها منزلتها التي تليق بها، فالله تعالى خلق الكون بكلمة، ورفع السموات بكلمة، وبالكلمة كان آدم، وبالكلمة نحيا وبالكلمة ندين، وبالكلمة يُرفع الميزان بين الناس يوم القيامة.
وبكلمة يدخل العبد الجنة، وبكلمة يدخل العبد النار؛ قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: “إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَهَا بَالا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَهَا بالا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ”، وقال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ” صحيح.
وقد غضب الله على بني إسرائيل بسبب كلمة حين قال: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} وكلمة (حطة) أي: حُط عنا خطايانا، فبدلوا القول محرفين ومغيرين: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}.
قال العلماء: إن بني إسرائيل قالوا: (حنطة) فزادوا حرفًا في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا!
والكلام من الآداب السامية والأخلاق الفاضلة في الإسلام، فحين يُعجب الإنسان بنفسه وبمنطقه بين الناس يكون السكوت هاهنا واجب للمحافظة على القلب من الرياء والفساد، قال عبيد الله بن أبي جعفر: “إذا كان المرء يحدث في مجلس، فأعجبه الحديث، فليمسك. وإذا كان ساكتا، فأعجبه السكوت، فليتحدث”.
والسكوت في هذه المواقف صعب لا يستطيعه كثير من الناس بل الذي يقدر عليه من يعرف أثر الكلمة وخطورتها، ويعرف أنها قد تكون فيها هلاكه، قال خلف بن إسماعيل: قلت لسفيان الثوري: “إذا أخذت في الحديث نشطت وأنكرتُكَ، وإذا كُنْتَ في غير الحديث كأنك ميت! فقال: أما علمت أن الكلام فتنة”.
وقال عبد الله بن أبي زكريا: “ما عالجت من العبادة شيئًا أشد من السكوت” لذا؛ كانت قلة الكلام من وصايا العلماء والحكماء لأتباعهم فعن صالح بن أبي الأخضر قال: قلت لأيوب السختياني: أوصني، قال: “أقل الكلام” وكان الأوزاعي يقول لأتباعه وتلاميذه: “من عرف أن منطقه من عمله، قل كلامه”.
وكان الفضيل بن عياض يقول: “لا حج ولا جهاد أشد من حبس اللسان، وليس أحد أشد غمًا ممن سجن لسانه”.
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ فَقَالَ يَعْنِي رَجُلًا أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “أَوَلَا تَدْرِي فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يَنْقُصُهُ” صحيح.
قال الذهبي: “واختلف العلماء في الكلام المباح، هل يكتبه الملكان، أم لا يكتبان إلا المستحب الذي فيه أجر، والمذموم الذي فيه تبعة؟
والصحيح كتابة الجميع لعموم النص في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، ثم ليس إلى الملكين اطلاع على النيات والإخلاص، بل يكتبان النطق، وأما السرائر الباعثة للنطق، فالله يتولاها”.
وقد تكون الكلمة سببًا في هلاك إنسان أو إزهاق روحه، فعن خرزاذ العابد قال: “حدث أبو معاوية الرشيد بحديث: “احتج آدم وموسى” فقال رجل شريف: فأين لقيه؟ فغضب الرشيد، وقال: النطع والسيف، زنديق يطعن في الحديث، فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول: بادرة منه يا أمير المؤمنين، حتى سكن”.
ويمكن للكلمة أن تغير مجرى حياة إنسان فيتحول من حال إلى حال، وتكون سببًا في هدايته أو شقائه.
فهذا الفضيل بن عياض، ذكروا أنه كان شاطرًا يقطع الطريق، وكان يتعشق جارية، فبينما هو ذات ليلة يتسور عليها جدارًا إذ سمع قارئا يقرأ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16]، فقال: بلى! وتاب وأقلع عما كان عليه”.
فكان بعد ذلك أحد أئمة العباد الزهاد، وأحد العلماء الأولياء، وكان حسن التلاوة كثير الصلاة والصيام، وكان سيدًا جليلا ثقة من أئمة الرواية رحمه الله.
وهذا أبو سليمان الداراني يقول: اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت إليه ثانية فأثر كلامه في قلبي بعدما قمت وفي الطريق، ثم عدت إليه ثالثة فأثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، فكسرت آلات المخالفات ولزمت الطريق.
وهذا جعفر بن حرب الكاتب كانت له نعمة وثروة عظيمة تقارب أبهة الوزارة، فاجتاز يومًا وهو راكب في موكب له عظيم، فسمع رجلا يقرأ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} فصاح: اللهم بلى، وكررها دفعات ثم بكى ثم نزل عن دابته ونزع ثيابه وطرحها ودخل دجلة فاستتر بالماء ولم يخرج منه حتى فرق جميع أمواله في المظالم التي كانت عليه، وردها إلى أهلها، وتصدق بالباقي ولم يبق له شيء بالكلية، فاجتاز به رجلٌ فتصدق عليه بثوبين فلبسهما وخرج فانقطع إلى العلم والعبادة حتى مات رحمه الله.
وهذا الإمام الأوحد، البحر، ذو الفنون والمعارف أبو محمد بن حزم الأندلسي الفقيه الحافظ المتكلم الأديب الوزير الظاهري، صاحب التصانيف، قال رحمه الله: إن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة، فدخل المسجد فجلس ولم يركع، فقال له رجل: قم فصل تحية المسجد.
وبكلمة طلق إسماعيل عليه السلام زوجته التي شكت حالها لإبراهيم عليه السلام ولم تكن تعرفه، وبكلمة ثبَّتَ إسماعيل زوجته الأخرى التي حمدت الله على حالها لإبراهيم الذي قال لها: إذا جاء إسماعيل فقولي له إن شيخًا كبيرًا جاء وهو يُقرئك السلام ويقول لك: ثبت عتبة بابك.
وبكلمة لبث يوسف في السجن بضع سنين.
وبكلمة في حمية وعصبية أسلم حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الختام نقول: نعوذ بالله من ذل التراب، ومن أسباب الخراب، ونسأله تعالى العون على التمسك بالسنة والكتاب، وأن يوفقنا لتعلق قلوبنا به بلا شك ولا ارتياب.