من بين الأعلام المتصوفة الذين قالوا بالحلول:
– أبو الحسن الشاذلي شيخ الطريقة الشاذلية المعروفة القائل: «من أطاعني في كل شيء بهجرانه لكل شيء أطعته في كل شيء بأن أنجلي له في كل شيء؛ حتى يراني أقرب إليه من كل شيء؛ هذه هي طريقة أولى وهي طريق السالكين، وطريق كبرى من أطاعني في كل شيء بإقباله على كل شيء لحسن إرادة مولاه في كل شيء أطعته في كل شيء؛ بأن أنجلي له في كل شيء حتى يراني كأني عين كل شيء» .
– قلت: وهنا تلبيس من الشاذلي على القارئ حتى لا يدرك مفهوم قوله الدال على الحلول، علما أنه جلي وواضح في قوله: (بأن أنجلي له في كل شيء حتى يراني كأني عين كل شيء)، حيث يفهم من كلامه أن الله عز وجل يظهر في كل شيء موجود في هذا الكون، وهذا القول هو عين الحلول.
– وللسان الدين الخطيب كلاما في الحلول كقوله: «المتصوفة في هذا المجال قسمان: قسم زعم أنه تلاشت رسومه وقسم تدرج في المراتب غير المكانية ولا الزمانية يبتغي القرب من الله حتى صح أن ذلك حقيقة العدم، يعني أن خلق الله صفته فالأشياء سواه أفعاله وصفاته مع وجود الله عدم، وإنه تيقن وجود وجوده بإدراكه وإدراكه بالله لا بذاته» .
– ثم قال: « والقسم الثاني ومن زعم أنه تلاشت رسومه وفني عن وجوده ثم فني عن فنائه وأدرك عند ذلك حقيقة ذاته وفني من لم يكن وبقي من لم يزل» .
– فالمتأمل في هذين النصين نجد بأن لسان الدين الخطيب صنف المتصوفة القائلين بالحلول إلى قسمين:
أ – قسم ادعى التلاشي بذهاب صفاته الأصلية البشرية نهائيا ليكون مهيئاً لحلول الله فيه.
ب – وقسم من خلال تقربه إلى الله أيقن بأنه عدم محض؛ وأنه ما هو إلا صفة من صفات الله خلق ليكون مظهرا لذات الله عز وجل. وهذا ما أشار إليه لسان الدين الخطيب متعمداً المراوغة وإخفاء معتقده الحلولي الوهن؛ مخافة تعرضه للنقد من قبل المسلمين، لكن اللبيب بالإشارة يفهم.
ومن بين القائلين بالحلول أيضا:
– عبيد الله أحرار النقشبندي القائل تعبيرا عن عقيدته الحلولية: «فإذا تجلى الحق تعالى على قلبه (قلب السالك) بالتجلي القهري؛ يمحو منه الغير والسوا فلا جرم يسمع في هذا القلب»: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾، و«سبحاني ما أعظم شأني» و«أنا الحق» و«هل في الدار غيري» .
– ومن أقواله أيضا:
– «إن العارف من فنيت ذاته وصفاته في ذاته تعالى وصفاته؛ فلم يبق له اسم ولا رسم» .
قلت: والمراد من كلامه كما هو في المفهوم الصوفي: أن الإنسان العارف حقيقة؛ من وصل إلى مرحلة تفنى فيها ذاته وصفاته البشرية متحولة إلى صفات إلهية؛ حيث يصل إلى مرحلة يحل فيه الله عز وجل فيصير ويصبح إلهاً. تعالى الله عما يقول المجرمون علواً كبيراً.
ومن بين المتصوفة دعاة الحلول نجد محمد بارسال القائل:
«إن حقيقة الذكر عبارة عن تجليه سبحانه لذاته بذاته في عين العبد» .
وفحوى كلامه هذا: أن الذاكر يصبح نفس المذكور؛ والمذكور نفس الذاكر؛ وهذا قول بالحلول جلي وواضح وقبيح. والأقبح من هذا ذكره تجلي الله بذاته في عين العبد، أي أن الله حل في العبد بذاته؛ وما دام الله قد حل في العبد صار لا وجود لذكر وذاكر ومذكور؛ فالكل أصبح شيئاً واحداً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ولو ذهبنا نتتبع أقوالهم ما خلصنا؛ لكثرتها، فما من إمام مشهور لديهم إلا ولديه شيء من هذا الكلام، إما بالتصريح، وإما بالإشارة والتلميح، بدءاً من أبي يزيد البسطامي، وسهل التستري وابن سبعين، وانتهاء بابن الفارض والحلاج وابن العربي والسهروردي المقتول وغيرهم كثير.
فهذه المعاني موجودة ظاهرة في كلامهم، هذا لا يمكن إنكارها، رغم التباسها على الكثير منهم، حيث خلطوا بين المعاني والألفاظ، فتكلموا بألفاظ لا تحتمل إلا معاني: الحلول، والاتحاد، والوحدة. حتى أصبح ذلك يشكل عند المتصوفة مثلثا إلحاديا، فنجد من المتصوفة من فهم هذه المسألة واعتنقها، فتكلم بكل ذلك عن علم ودراية. ومنهم من لم يدركها، لكن تكلم بمثل تكلم المدرك؛ كون اللغة واحدة عند الجميع.
قال شيخنا العلامة محمد بوخبزة من خلال سياق حديثه عن المتصوفة: «..فقد أحدثوا في الإسلام شرخا لا يصلحه إلا رب العالمين، إن شاء تدارك دينه بلطفه، فقالوا بالشطح والباطن والظاهر، ورتبوا للناس مقامات وأحوالا، ووضعوا ألقابا أعلاها القطب الذي يُسيّر العالَم وأحدثوا له ديوانا يحضره ويحضر معه مساعدون ينعقد بغار حراء بمكة، ومن القرن الرابع أخذت تنضج أفكار تقطر كفرا وشركا جديدين يتمثل في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وكلامهم في هذا غموض في غموض؛ وتناقض وتدافع؛ وسخافة وهذيان، إلى التحلل من الشريعة وإدخال الوهن في أحكام الله بل الاجتراء على الله سبحانه وتعالى نفسه بإنكار وجوده وتميزه المقدس بدعوى أنه الوجود المطلق» .
وخلاصة القول أن عقيدة الحلول لدى المتصوفة هي مجرد هوى وضلال وانزلاقات عقدية خطيرة تجاه الله عز وجل؛ وذلك لنبذهم لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه ورسوله المصطفى الأمين محمد صلى الله عليه وسلم؛ جلبوها من الأمم الإلحادية التي لا تزال تعبد الأوثان والأصنام ولا تمت للإسلام بصلة وهو منها براء، بل جاء الإسلام لمحابتها.
وختاما
فالقول بالحلول ووحدة الوجود والاتحاد من البدع الاعتقادية التي وجدت عند كثير من الفرق والطوائف المبتدعة وأهل الأهواء ولا سيما المتصوفة، الذين زعموا أنهم يريدون سلوك الطريق إلى الله عز وجل ولكنهم بدل أن يسلكوا طريق الكتاب والسنة الذي لا طريق إلى الله غيره، راحوا يشرعون لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله إذ وجدوا أن المنهج الإسلامي القائم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى الاعتدال والتكامل ومحاربة الغلو والتطرف لا يشبع نزعاتهم السلبية الغالبية؛ راحوا يطوفون بالمذاهب والديانات المختلفة يقمشون منها، فأخذوا من البوذية والنصرانية والصابئة مدعين لأنفسهم أحوالا وواردات ومواجد وأذواقا لا يعرفها الدين. متكلمين في كل ذلك بما يشبه الألغاز، ومازال الشيطان يحوم بهم ويصور لهم من الخيالات مالا حقيقة له حتى أفضى بهم وأوقعهم في القول بالحلول والإتحاد ووحدة الوجود، والجبر وبطلان التكليف والتسوية بين الطاعات والمعاصي والإيمان والكفر بدعوى شهود الربوبية في كل موجود. يقول ابن الجوزي:
«وعلى هذا أكثر قصاص زماننا وصوفية وقتنا» .
ولا يمكن في مثل هذه الورقات القليلة الكشف عن كل مخازي وطوام هذه الطائفة وفضائحها، ولعلي قد استطعت في هذه اللمحات الخاطفة أن أقف على أهم مرتكزات هذه الأصول الثلاثة وعلى حقيقة التوحيد عند هؤلاء.
والله أسأل أن يثبت قلوبنا على دينه الحق، ويرينا الحق حقا، ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا بتوفيق ربنا *** أن الحمد لله الذي وحده علا