الاستقلال.. المسار والمصير الدكتور يوسف مازي

الاستعمار قد خرج من أرضنا لكنَّه لم يخرج من مصالح أرضنا..
ولم يخرج من ألسنتنا.. ولم يخرج من قلوبنا.. ولا من مدارس أبنائنا..

ذكرى مناسبة الاستقلال تذكرنا بمنة جليلة ونعمة كبيرة؛ نعمة الحرية والكرامة والاستقلال. فيوم الاستقلال هو اليوم الأنور الأزهر واليوم المحجَّل الأغر على المغاربة كافة. استقل فيه المغرب الذي فيه نبتنا، وعلى حبِّه نشأنا. لذا كان نعمة تستوجب شكر الله تعالى ولا يشكر الله عليها حقَّ شكره إلاَّ من عرف مخازي الاستعمار وذاق مرارة الذلِّ والاستعباد، وعانى حياة البؤس والشقاء في ظلِّ الإذلال والتعذيب. فإما عميل! وإما ذليل!
فإلى الله نتوجَّه بالشكر على ما أنعم به علينا من تخليصنا من أنياب شيطان الاحتلال، وأعاد أرض الإسلام المغرب إلى حاضرة الإسلام، وأحال كنائس التثليث إلى مساجد للتوحيد! فنحمد الله على ذلك حق حمده، ونستنزل من رحمات الله الصيِّبة، وصلواته الزكيَّة الطيبَّة، على شهدائنا الأبرار ما يكون جزاء لبطولاتهم في الدفاع عن شرف الحياة وحرمات الدين وعزَّة الإسلام وحقوق هذا الوطن الغالي.
إن الأمم الناهضة لا تعرف في تاريخها أعز ولا أعظم من يومها الذي نالت فيه حقها وكرامتها. يقول الحق سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
فالله سبحانه وتعالى وهو من كف أيدي القوم عنا يطالبنا بذكر نعمته وشكر منته. ولا يكون الشكر كما يحب الله تعالى وأمر إلا أن يكون عملا. وهو ما ثبت في قوله سبحانه (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الارْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ).
إنها علامات اشترطها الله عز وجل على الذين مكّن لهم في الأرض أن يقوموا بأربع: إقَامة الصَّلاة، وَإيتَاء الزَّكَاة، وَالأَمَر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَهي عَن الْمُنْكَر.
وها نحن تحقَّق لنا الاستقلال، ومكَّن الله للعباد في البلاد، وأصبح أمرنا بأيدينا، فهل حققنا لأنفسنا في مدة تسعة وخمسين سنة، ما كنا نطالب به الاستعمار؟! هل قضينا على الموبقات والمحرمات التي نشرها الاستعمار في بلادنا؟! هل قضينا على الخمر والقمار والدعارة والربا؟…
إنَّ كلَّ محاولة اليوم لمحو مظاهر الإسلام، وسمات التديُّن، أو العبث بلغة القرآن ومقوِّمات الأمَّة وتاريخها… إنَّما تصبُّ في مصبٍّ واحد، وهو ما كان يرمي إليه المستعمر من قبل. وقد خرج المستعمر، لكنَّه خلَّف من ورائه فراخا ليكونوا امتدادًا له، وأيديَ موصولة بخيوطه من دجاجلة الخرافة والبدع، ومن المنصِّرين، والمسمِّين أنفسهم بالمثقَّفين والنَّخبَوِيِّين المتنوِّرين الذين لسانهم لسان المستعمر، وفكرهم فكره، وعواطفهم عواطفه، وحنينهم إليه…
إنَّ الاستعمار شيطان قال فيه سبحانه: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّـهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) وقال فيه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الشَّيطانَ قَد يَئسَ أن يُعبَدَ بأرضِكُم ولكنْ رضِيَ أن يطاعَ فيما سِوى ذلكَ مما تَحاقَرون من أعمالِكُم فاحذَروا إنِّي قد ترَكْتُ فيكم ما إنِ اعتصمتُمْ بِهِ فلن تضلُّوا أبدًا كتابَ اللَّهِ وسنَّةَ نبيِّهِ” عبد الله بن عباس كما في الترغيب والترهيب بإسناد حسن.
فالاستعمار قد خرج من أرضنا لكنَّه لم يخرج من مصالح أرضنا. ولم يخرج من ألسنتنا، ولم يخرج من قلوبنا ، ولا من مدارس أبنائنا…
فالاستعمار العسكري ذنَبٌ، والاستعمار الثقافي والفكري رأسٌ، والحيَّة لا تموت بقطع ذنَبها فقط بل بقطعهما معا، يقول الشاعر:
لا تقطعنَّ ذنب الأفعى وترسـِلَها **** إن كنت شهمًا فأتبع رأسها الذنبا
فعلينا جميعا نحن المغاربة وكل أحرار العالم من المسلمين أن نحرر ثقافتنا من التبعيَّة كما حررنا أرضنا من الاستعمار حتى يرضى شهداؤهم الأبرار. بل البدار البدار ليتأكَّد الاستقلال ويكتمل الانتصار، وعندها نحتفل بالاستقلال أحسن احتفال.
لقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظاهرة الاستعمار وسماها استغلالا اقتصاديا وسياديا على الأرض بغير وجه حق قال صلى الله عليه وسلم: “منعتِ العراقُ درهمَها وقفيزَها، ومنعتِ الشامُ مديْها ودينارَها، ومنعتْ مصرُ إردبَّها ودينارَها، وعدتُمْ مِنْ حيثُ بدأتُمْ.وعدتُمْ مِنْ حيثُ بدأتُمْ، وعدتُمْ مِنْ حيثُ بدأتمْ.شهدَ على ذلكَ لحمُ أبي هريرةَ ودمُهُ” من حديث أبي هريرة كما خرجه مسلم في صحيحه.
ومعنى الحديث كما هو عند بعض أهل العلم من شراحه؛ منعت أي سيمنع أهلها ذلك باستيلاء العجم والروم على بلاد المسلمين في آخر الزمان فيمنعون حصول ذلك المذكور في الحديث من نقد البلاد ومكيالها.
وهم ما جاء مصرحا به في حديث جابر هذا: “وشِك أهلُ العراقِ ألا يُجبَى إليهم قَفيزٌ ولا درهم قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبَلِ العجَمِ. يمنعون ذاك ثم قال: يوشِكُ أهلُ الشامِ أن لا يُجبَى إليهم دينارٌ ولا مُديٌ. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبَلِ الرومِ..” من حديث جابر بن عبد الله كما في صحيح مسلم.
إن مصطلح الاستقلال: يدلّ لغة على الارتفاع والارتحال فنقول استقل القوم بمعنى مضوا وارتحلوا.
واستقل فلان انفرد بتدبير أمره. واستقلت الدولة استكملت سيادتها وانفردت بإدارة شؤونها الداخلية والخارجية، لا تخضع في ذلك لرقابة دولة أخرى مهيمنة. أنظر لسان العرب.
وبتأملنا هذه المحطات يلوح لنا جميعا مدى أهمية هذا الحدث ومدى التضحيات الجسام التي بذلها سلفنا وأجدادنا في سبيل الحصول على الاستقلال لنعيش نحن في ظلاله الوارفة:
– المحطة الأولى: ما بين 1912 و1934: نشأت مقاومة مسلحة قامت بها القبائل المغربية ضد الاحتلال العسكري.
– المحطة الثانية: في 16 ماي 1930 صدر قانون الظهير البربري الذي يعتبر الشرارة التي أشعلت فتيل المقاومة والجهاد.
– المحطة الثالثة: في 11يناير 1944تزايد عدد الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال.
– المحطة الرابعة: 1947 جاء خطاب طنجة التاريخي. وفي 1952 ألقي خطاب العرش.
– المحطة الخامسة: سنة 1952 نشبت أحداث الكاريان سنترال بالدار البيضاء.
– المحطة السادسة: سنة 1953 نفي السلطان الشرعي محمدا الخامس وأسرته الشريفة وترسيم ملك بدله يسمى ابن عرفة. فرفضه المغاربة رفضا باتا وأشعلوا ثورة الملك والشعب يوم 20 غشت 1953.
– المحطة السابعة: سنة 1956 الإعلان عن استقلال المغرب وبالتالي نهاية فترة نظام الحماية .
محطات سبع من أهم محطات درب النضال والتضحية والجهاد بالنفس والنفيس وجب الرجوع إليها للوقوف على دروسها وعبرها.
وبعدها أبى المغاربة إلا أن يسطروا ملحمة التشبث بالأرض بصور وأوحه أخرى استكمالا للوحدة الترابية:
المرحلة1: استرجاع طنجة سنة 1957 عبر مفاوضات وضعت حدا للوضع الدولي.
المرحلة2: استرجاع طرفاية سنة 1958 بعد مفاوضات مغربية اسبانية جاءت عقب المقاومة الشعبية لقبائل أيت بعمران.
المرحلة3: استرجاع سيدي إيفني سنة 1969 بعد مفاوضات مغربية اسبانية تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة.
المرحلة4: تنظيم المسيرة الخضراء واسترجاع الساقية الحمراء سنة 1975 .
المرحلة 5: استرجاع إقليم وادي الذهب سنة 1979 بعد قدوم وفد صحراوي إلى الرباط لتقديم البيعة للعرش العلوي المجيد والدخول تحت السيادة المغربية 1956.
ولايزال جهاد أمير المؤمنين الملك محمد السادس متواصلا لاسترجاع سبتة ومليلية والجزر الجعفرية.
إن هذه المناسبة تحيل شبابنا إلى السؤال عن الذين حرروا البلاد؟
وتذكرهم بواجب الوقت وأن الله استخلفهم، فهم عصب الأمة ومستقبلها وقلبها النابض، ودمها الجاري في عروقها… فالواجب على الشباب أن يستشعر المسؤولية ويعلم أنه مسؤول أمام الله على هذه المرحلة وأن يعتز بدينه، وأن يفهم الإسلام فهما صحيحا. ويلتزم بالوسطية والاعتدال.
كما علينا جميعا أن نحافظ على ثوابت هذه الأمة ومقومات شخصيتها الإسلامية.
وأن نستمر في طريق التعمير والبناء والإصلاح، مصداقا لقوله تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّـهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) وقوله سبحانه: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
وأن نذكّي فينا حبّ الوطن والحرص على الذّود على حرماته كما ذاد الشّهداء الصّادقون.
ليتجلّى مفهوم الاستقلال في أعلى معانيه الذي لا يرتبط فقط بإخراج العدوّ من أرض الوطن ولكن يستمرّ في دلالاته الحضاريّة بمعنى الرّفعة والعزّة والاستغناء عن الغير.
دلالات تجسد الاستقلال على مستوى الجماعات بالقناعة العامّة والرّضا والزّهد في الدّنيا ممّا يحقّق السموّ والتّعالي عن السّفاسف. فتتحوّل الدّنيا من غاية إلى وسيلة ومطيّة إلى الآخرة. ويتحوّل مفهوم الجهاد من مجاهدة العدوّ الإنسان إلى مجاهدة أعداء الإنسانيّة في مختلف أشكالهم بما في ذلك جهاد النّفس.
كل هذا وغيره كثير يدفعنا إلى أن نعود إلى بدء فنقول إن نعمة الاستقلال توجب على كل مسلم غيور شكر الله على هذه النعمة يقول تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *