الأصل في الحكم على دين أو مذهب أو حزب ما؛ أنه يُحل فعلا أو يحرمه؛ أو يتضمن أمرا أو يفتقر إليه؛ أن نرجع إلى مصادره ومراجعه أو أدبياته التي يستقي منها معارفه ويستمد منها قواعده؛ فنطلع على ما ورد فيها، ومنه يمكننا أن نحاكم أتباعه أو نحاججهم بناء على ما جاء فيها؛ ونلزمهم بالتقيد والانضباط بنصوصها وقواعدها.
هذا ما يمليه العقل؛ ولا يكاد يختلف حوله اثنان أو ينتطح عليه عنزان، لكن هذا الاتفاق يشوش عليه شذوذٌ وإن كان لا عبرة به؛ إلا أن أصحابه يملكون من المنابر الإعلامية؛ والأحزاب والجمعيات؛ ما يستطيعون بواسطته تزوير الوعي العام وإخفاء الحقائق الواضحات البينات.
وهذا ما يقع فعلا في قضايا ومواضيع شتى؛ وعلى رأسها موضوع تداخل الديني والسياسي؛ فما يقرره المحتكرون للمجال السياسي والإعلامي والاجتماعي والثقافي.. أن الدين لا علاقة له بالسياسة؛ وأن السياسة أمر دنيوي لا صلة له بالأخلاق أو شيء آخر؛ وهي باختصار عندهم: (فن الممكن)!!
وهو طرح يقدمه القوم ويجعلونه مسلمة لا تقبل النقاش؛ علما أنه مخالف تماما لنصوص الشريعة التي حكمت أكثر من أربعة عشر قرنا؛ فلم يكن يعرف قط؛ وفي العالم الإسلامي برمته من شرقه إلى غربه؛ فصل بين الديني والسياسي؛ والكتاب والسنة وكتب الفقه والسياسة الشرعية والنوازل والتاريخ شاهدة على ذلك؛ فلم تظهر هذه الفكرة التي يتغنى بها التيار العلماني في العالم الإسلامي ويكاد يطير بها فرحا؛ إلا بعد صدور كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للمصري علي عبد الرازق، والذي أثبتت الدراسات أن عمله سطو على بحث للمستشرق الإنجليزي الحاقد مرجليوث ، ولا يعدو كتاب عبد الرازق أن يكون حاشية على بحث مرجليوث؛ كما قرر ذلك الأستاذ والمفكر الكبير أنور الجندي في كتابه: رجال اختلف فيهم الرأي؛ من أرسطو إلى لويس عوض.
وقد كان موقف الأزهر حاسما حيال هذا المؤلف؛ حيث سحب شهادة العالمية من علي عبد الرازق؛ ورد شيخ الأزهر نفسه: الشيخ محمد الخضر حسين بكتاب سماه “نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم”؛ وتبعه بعد ذلك عدد من العلماء والمفكرين ورجال القانون البارزين كعبد الرزاق السنهوري باشا، ويذكر أن علي عبد الرازق تراجع في آخر حياته عن الكتاب وندم على ما سطر فيه.
وقد ظل العلمانيون يستثمرون هذا “الطرح”؛ مساوين بين الإسلام: الدين الحق؛ والنصرانية: الدين الباطل؛ وأعملوا معاول الهدم نفسها التي استعملها من قبل فلاسفة الثورة الأوربية لهدم سلطة الكنيسة؛ وانتقلوا من تقليد التجربة الغربية -التي عانى أهلها من الاستبداد الكنسي وظلم الإكليروس؛ وخلصوا بعد ذلك إلى إبعاد دين محرف عن جميع مناحي الحياة وعلى رأسها السياسة ورفعوا شعارهم الشهير “دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر”- إلى المطالبة العلنية بإبعاد الدين الحق عن كافة مناحي الحياة ومنها السياسة.
إنها مفارقة عجيبة غريبة؛ فقد نجد مبررا للنصارى الذي ثاروا على دين محرف؛ عانوا من رجاله الاستعباد والاستبداد والظلم؛ فأحلوا محله نظاما بشريا وضعيا؛ لكن ما لنا ولِما حلَّ بأمم الغرب؛ وهل كان ديننا يوما يمنع من العلم أو يدعو إلى استعباد البشر؟ ومتى كان نظامه نظاما جامدا لا يلبي حاجيات المجتمع؟ وهل تشريعاته المتنوعة الغنية قاصرة عن مواكبة تطورات الحياة؟
إن السياسة التي تقرها الشريعة لا علاقة لها بسياسة النفاق والكذب والخداع المؤسسة على فلسفات بشرية ومذاهب وضعية؛ ولا هي فن الممكن كما يعبر عنها؛ إنها (فعل يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به وحي).
فلا سياسة في الإسلام إلا ما وافق الشرع؛ أي لم يخالف ما نطق به الشرع، لأن السياسي المسلم كغيره من أفراد المجتمع مخاطب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}، وداخل أيضا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان”.
فلا يقبل -ولا يعقل أيضا- من الفرد المسلم أن يكون متقيدا بنصوص الشريعة في المسجد والبيت مثلا؛ مخالفا لها في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفن.. فنحن مأمورون بالدخول في الإسلام كافة؛ مصداقا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، ومنهيون عن الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض؛ مصداقا لقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
نعم؛ نحن مع (إدخال الدين في السياسة) لا لتبرير سياسة النفاق والكذب والخداع؛ ولكن لأننا نؤمن أولا أن السياسة جزء لا يتجزأ من نظام التشريع الإسلامي؛ وثانيا لتطهير السياسة من دنسها؛ وإخراج العبد من اتباع هواه إلى طاعة مولاه في جميع مناحي الحياة؛ ومنها السياسة.
فلا يقبل على الإطلاق استغلال الدين (المقدس) في السياسة (المدنسة) القائمة على قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة)، لكن السياسة القائمة على أصول وقواعد الشريعة فهي ركن أصيل من الشرع؛ والأدلة والنصوص في ذلك تترى لا يتسع الحيز لسردها.
وفي الختام: يجب أن نكون على اتفاق ويقين تام؛ أن الإسلام ينظم حياة الإنسان قبل أن يخرج من بطن أمه (أحكام الجنين) إلى أن يتوفاه ملك الموت؛ وحتى بعد الموت (أحكام الجنائز)؛ وينظم جميع مناحي حياته الفردية والجماعية؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية..؛ {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}؛ لأنه -وبكل وضوح- الرسالة الخاتمة التي لن يقبل الله الذي أحاط بكل شيء علما؛ وأحصى كل شيء عددا؛ من عبد يوم الدين سواها، وهذا من أصول الإيمان.