علمنا سيد الخلق، أن ننصب أكف الرغبة مستمطرين عطايا الربّ من حيث لا نحتسب، وفي ذلك من الحكمة ما فيه، فدِرهم على غير الإلف في التجارة خير من ألف مسكوك برتابة الإجارة.
ومن جنس هذا وبمفهوم المخالفة، أن نستثقل أيما استثقال صفعة القريب أضعاف ما نحسبه من استثقال جراء قصف الغريب، ولذلك فعندما تكلم وزير مصر للثقافة المبتذلة عن منقبة الحجاب، ونعتناه بعود الثقاب كناية عن البيئة الكبريتية التي تربّى في كنف فكرها، واستحلب من ضرعها اللائكي محلول فلسفته المهجنة، ثم جاء بعده رئيس الإيالة الفرنسية ليؤسس لجمهورية أسلافه القطيعة مع ملامح الستر، وسمات الحياء، ورميناه نبزا بالولاعة، تجوزا للدلالة على إيثاره لإيقاد فتنة الخلاعة، في أرض لا تعدو أن تكون أرضا لله، يشملها تكليف رسالة الإسلام شعيرة وشريعة.
ومكر هذه الطينة المسنونة غير خفي ولا مستبعد، فهو داخل في منظومة ما نستشرف ترجيحا في الحسبة والحسبان وقوعه، فلا غرابة ولا عجب، فالترويج للإلحاد ونشر المعاصي وشهر فصامها بالدف والمزمار، حرفة الغزاة، وصنعة من مالئوهم من أبناء جلدتنا، الذين فتحوا لهم الأحضان، وألقوا إليهم بالسمع والطاعة، وهم بهذا في حوجلة واحدة، إذ شرعنا الحنيف بنى روابط الأخوة خارج سياق العقيدة على الدم والضرع، فمن امتص من ثدي العلمانية المقيتة حد الإشباع، صارت له أخوة مع من ديدنه التنظير لأمه والمنافحة عن متغيراتها الجائفة.
ولذلك يبقى الرد على هذه الفئة المشهور عنها فعل المناوءة واجبا شرعيا نروم من خلاله شكر نعمة الانتساب لدينٍ خلقُه الحياء، كما نبغي بناء السدود العقدية لنشغل الفجاج الشاغرة، حتى لا تتسلل منها سخائم الإلحاد لواذا، فتملأ الأعلام الراسيات بأطياف الزندقة، وتنصب بيارق الرعونة المردية التي متى مكِّن لأصحابها أقاموا الكبائر، وآتوا الموبقات، ونهوا عن المعروف، وأمروا بالمنكر، وسلوا صارم الغدر من غمد الحقد الدفين في نحورهم، الملأى بغيض الفجور وغيض النفور.
ولا غرابة إذا علمنا أن فعل المناوءة هذا كثيرا ما أفضى إلى خير جزاءا وفاقا ومكرا بالكائدين لهذا الدين العظيم، ولذلك كنا ولا نزال لا نخشى أي علماني مهما كانت دركة منصبه إذا تكلم في منقبتي النقاب والحجاب، فكم أحيت صيحاتهم الماكرة في نفوس المدبدبات من بناة الأمة من نقاوة طبع وصفاوة فطرة، فملأن الجامعات والمؤسسات بزينة الحجاب وصولجان النقاب، ولا عجب في هذا فإن شرائع الإسلام بمثابة الكرة المطاطية الصفراء، فكلما اشتد عليها الضرب علت فوق الرؤوس المريضة، وتفلتت من قبضة الأيدي الحافلة بالبغي والخديعة، وظهر من بريق معدنها ما أخفته النفوس المتربصة ردهة من الزمن.
وإذا كان الأمر هكذا مع ما أمرنا أن نتحسب كرهه، ونتوقع مكره، وأن نعد له ما استطعنا من قوة ورباط خيل، فإن الأمر على غير هذا العزم واليقظة من جهة ما لا نترقب وقوعه، ولا نضارب على سماع صلصلته، فنستعيذ بالله من شر لا نحتسبه، وأي شر أدهى وأمر أن يطلع علينا شيخ تخمرت في جوفه مادة العلم الشرعي، فنال بها أول ما نال حظوة الحظ الفاني الخسيس، ليقول بلسان حاله ومقاله أنني وإن كنت الأخير زمانه إلا أنني جئتكم بما لم تستطعه الأوائل: إن النقاب عادة عربية لا علاقة للإسلام بها، وأن يوقِّع على صك وهمه وبصفاقة ملؤها الكبر والغرور، وهو يحاور فتاة حباها الله بنعمة الستر، قائلا: أنا أعلم منك ومن الذين خلفوك!؟
فكيف لنا بعد هذا الادعاء، وهذا العلو في الأرض، ونحن الصغار المجردون من نياشين الألقاب، أن ندافع بين العوام والهوام عن فريضة النقاب أو فضله، وهذا شيخ الأزهر يحكي انتفاخا صولة الأسد، وكم قبله من صولة امتد صوتها إلى تحليل الربا، وتجويز الغناء والاستمناء، وشرب الخمر للمرأة الحامل في نهار رمضان، وهلم جرا من الفتاوي الحائفة التي ما كان لأصحابها أن يجرؤوا على نشر بهتانها وإفكها المبين لو أنهم اتقوا عقباها، وتفادوا ما انغمسوا فيه من ألقاب فتحت لهم أبواب زينة الحياة الدنيا، بعدما استدرجهم إبليس إلى اعتلاء صهوة جوادها المسمى في لفظ النبوة بالوهن، الذي هو محض إفراط في الاعتناء بحاجيات الجسد حد الشبق، وحد كراهية الموت على حساب الترك الكلي، لما تحتاجه الروح من ذرات نورانية إيمانية مادتها الأولى والأخيرة تقوى الله وخشيته بعلم.
وهذا التسليم إذا انضاف إليه حديث الفتن التي تعرض على القلب عرض العود على الحصير، فيحصل من التعرض لشبهها وشهواتها بالإقبال والقبول ما حدثنا به الصادق المصدوق من نكوت النكتات السوداء، وتَمَّ الانتباه إلى هذه الإضافة الحديثية الشريفة بكون أن هذه النكتات وكما أنها كمية فهي نكتات نوعية يشير، إلى ذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم لها بالسوداء، فهمنا بعد هذا كيف تعمل القلوب المغلفة بالران، فهي تتجاوز السكوت عن المنكر إلى بذل الجهد في الدعوة إليه، وتتجاوز ترك الإقرار بالمعروف إلى بذل الطاقة والوسع في محاولة صد الناس عن فضائه النوراني، وعند هذه النقطة من المعرفة يمكننا أن نتخلص من الوافدات التعجبية، والاستفهامات الاستغرابية التي ملؤها الحيرة والتي تحصل للكثير منا كلما خرج علينا أحدهم بسقطة شديدة الانحدار في ثوب الرفعة المرشدة التي تروم تحقيق المصالح ومجاراة عصر العولمة ومتطلباته.
وحينها فقط، نستطيع أن نتعامل مع منعرجات بنيَّات الطريق ومتتالياتها الشاذة بالقراءة الإيمانية التي مفادها أن العبرة ليست بالاسم ولا اللقب ولا الشهرة، فكل هذا تلبيس لا تستطيع القراءة السطحية الغوص في كنهه بمعزل عن الفراسة المشبعة بالإيمان التي تفضي إلى فهم عن الله ورسوله، ينظر إلى الخطأ الجسيم الصادر عن الرسم العظيم، بكونه استدراج رباني بعد إصرار وتكرار واغترار بما يظهر أنه تمكين في الأرض وبسط قبول، وهو لا يعدو أن يكون إمهالا من الله وحلم، حتى إذا جاء الأخذ مسبوقا بالفضح لم تخطئهم إرادة العزيز المقتدر، ليذهب رسمهم جفاء مع انتفاء زاد المعذرة ووقوفهم على باب الإفلاس والإبلاس مع قوة الحجة عليهم.
وإذا وقر هذا في القلب، فلا تبتئس بعد من قول ذوي الأكواز المجخية، واستبشر خيرا بعلم مفاده، أن النقاب ثوب أشرقت بنور ستره بنات مصر قبل بنيان الأزهر ومهد مشيخته، ثم زد إلى استبشارك بشرى مفادها أن ثوب العفاف الذي قيل في حقه أنه عادة، قد تعبدت به ماريا القبطية المصرية المسلمة مِلكُ يمين سيد الخلق، وأم ابنه إبراهيم، فالحمد لله رب العالمين الذي جعل لكل زمان غرسا طيبا، استعصت رقابه على رياح التبديل العاتيات.