سلسلة مرافعات في الدعوة السلفية المرافعة الأولى: رؤية سلفية..في الدستور والسياسة ذ.طارق الحمودي

 

ما علاقة السلفية بالسياسة؟
لابد أولا من الوقوف عند المصطلحات فقد تعلمت أن كثيرا من الإشكاليات تنشأ من عدم تحريرها؛ وربما يفسد كل شيء بسبب الغموض في المصطلحات المستعملة من الطرفين المتنازعين.
فالسياسة هي القيام بمصالح الناس الدينية والدنيوية؛ وهي من أعظم الوظائف والخطط الشرعية في الإسلام؛ ويظهر ذلك في اشتغال الأنبياء بها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء).
قال النووي في شرح مسلم: (أي يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة).
إن مثل هذه الأحاديث صفعات قوية على وجوه شبه هزيلة يبثها بنو علمان هنا وهناك؛ فالنبي يصلح أن يكون سياسيا، وفي الحديث: (والعلماء ورثة الأنبياء..)، أي أنهم ورثوهم في مهامهم ووظائفهم ومنها السياسة!
فكلام أهل العلم المؤهلين في السياسة ليس بدعا من العمل لأنهم ورثوه وهو حقهم؛ وما المانع من ذلك وقد كان في تاريخ الإسلام أمراء بل خلفاء علماء؛ هذا عندما تكون الظروف مناسبة لسياسة شرعية، أما اليوم فالعمل السياسي بالمفهوم العصري غاية في الخطورة لأنه يستلزم تنازلات تكون أحيانا على حساب ثوابت الشرع، ويكفي العلماء اليوم التنظير والتوجيه والانتقاد التصحيحي من خارج المؤسسات السياسية!
إن مسائل ومباحث (السياسة الشرعية) عند السلفيين كما قال ابن تيمية رحمه الله في السياسة الشرعية (ص:8): (مبنية على آية الأمراء في كتاب الله وهي قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا، يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}.
قال العلماء:
1- نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور؛ عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل.
2- ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم؛ عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك؛ إلا أن يأمروا بمعصية الله فإن أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق..اهـ.
صحيح أننا نمنع من الاشتغال بالسياسة؛ أي سياستهم القائمة على مخالفة الشرع؛ لكننا لا نمنع ولا يحق لأحد أن يمنع من العمل السياسي بمفهومه الشرعي في تولي الولايات مع مراعاة مقاصدها الخدماتية للشعب والمجتمع!
ومن حسن تصور العلماء للولايات السياسية أنهم يقسمونها إلى قسمين: ولاية خاصة وهي الخلافة والملك؛ وولاية عامة وهي ولايات الوزارات والبلديات والمؤسسات وغيرها.
ولسنا نقبل إلا سياسة شرعية قائمة على كتاب الله وسنة رسوله؛ باستعمال العقل لإسقاط المقاصد والنصوص الشرعية على الواقع؛ والتوسع في وضع القوانين التنظيمية له التي يحكمها ويحركها الشرع؛ وقد جاء هذا الشرع -باتفاق- لتحقيق مصالح العباد الدينية والدنيوية.

الدستور ومفهومه
الدستور كما يقولون أم القوانين وهو القانون العام المنظم للحياة العامة السياسية والثقافية والاجتماعية.
وهو عند السلفيين فلسفة إسلامية قائمة على حس المسؤولية تجاه الشرع والمجتمع وهو القانون العام والقواعد الإجمالية التي تحدد المسار التنظيمي للعلاقات البشرية الدينية والدنيوية في المجتمع ذي المشتركات الواحدة المستمد من الشرع بالعقل تحت رقابة الشرع!
والدستور ليس بدعة من البدع السياسية من هؤلاء العلمانيين؛ بل هو أسلوب عالمي إنساني وقد عرف في تاريخنا الإسلامي دستور من أشهر الدساتير وأنقاها بل أنقاها على الإطلاق وهو دستور المدينة أو ما يسميه أهل السير: صحيفة المدينة.
وانظر فصوله مستقصاة في سياق نقد حديثي منضبط عند الدكتور أكرم ضياء العمري في صحيح السيرة النبوية.
هذا أول دستور إسلامي عاش به المسلمون أيام رغد ورخاء وحرية وإخاء وعدالة اجتماعية!
ولست ألوم المستعمر المستخرب على فرضه دساتيره على غيرهم؛ إنما ألوم هؤلاء المستغربين في العالم العربي والإسلامي الذين أقروا الدستور الفرنسي وغيره على حساب دستور شرعي.
ولعل وأقبح ميزة في دساتيرهم هذه وفي دساتير أسيادهم الغربيين أنها بلا روح؛ هذا هو الواقع؛ لأنها لا تقوم على أساس متين أخلاقي وثقافي! بل إنهم بسبب ذلك لم يستطيعوا أن يجدوا تعريف واحدا متفقا عليه أو تعاريف متقاربة.
وقد صرح بذلك كبار خبرائهم في القانون بل فقهائهم الدستوريين كما يقولون. وقد نقل جملة من تلك التصريحات القوية العلامة وحيد الدين خان في كتابه العجيب (الإسلام يتحدى) في الفصل الثامن (الدين ومشكلات الحضارة/التشريع).
فقال: قال خبير في التشريع: (لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا).
وقال: (وأما السبب وراء هذا الاختلاف بين خبراء التشريع فهو عدم توصلهم إلى أساس صحيح يمكن إقامة صرح التشريع عليه؛ إنهم يجدون أن القيم التي يحاولون جمعها في هيكل الدستور يستحيل وضعها في ميزان واحد..).
(وقد أعطت هذه النظرية أساسا كونيا للمشرعين؛ فقيل: إنه لابد من دستور موحد صالح لكل العصور وهذه هي نظرية علماء القرنين السابع عشر والثامن عشر حول القانون؛ ثم جاءت مدرسة أخرى ادعت استحالة معرفة الأسس الكونية للدستور). (فلسفة القانون ص:5؛ بواسطة الإسلام يتحدى).
وقال وحيد الدين خان: (إن الإنسان لن يستطيع الكشف عن أساس واقعي للتشريع، رغم الجهود الجبارة التي بذلت في هذا الحقل منذ مئات السنين، ويزداد يوما بعد يوم شعور بالمرارة وخيبة الأمل بين رجال التشريع..لأن الفلسفة الحديثة قد فشلت في بحثها عن أهداف الدستور). (الإسلام يتحدى).
وقد فُضحت الدساتير الغربية وفضح عدم وجود معيار واقعي حقيقي للديمقراطية عندهم فيها! بل فضحوا حين اكتشف المتخصصون أنهم احتاجوا للتعاليم الإسلامية لوضع أول دستور بعد الثورة الفرنسية زمن نابليون بونابرت في قانونه الأول.
كما قال الحجوي في الفكر السامي (1/10): (الكل يعلم أن بعض قوانينها مقتبس من الفقه الإسلامي؛ كقانون نابليون الأول وغيره من ملوك أوروبا، فالفقه الإسلامي أصل التمدن العصري الحديث والفضل كل الفضل في احترام الحقوق وصيانتها وتشييد منارها للإسلام والفقه الإسلامي).
وكان السبب الرئيس لعدم قدرة الغربيين على إنتاج ووضع دستور مؤسس على شيء صحيح ثابت هو أنهم وضعوه ردة فعل تجاه التسلط الكنسي بعد انتصارهم عليه، فكانت الدساتير في ذلك الوقت كلها استعجالية وارتجالية، ورغم مرور مئات السنين لم نر تطورا حقيقيا في دساتيرهم، بل ما زادت هذه الدساتير هؤلاء إلا حيرة وغرقا في الانحلال الأخلاقي وتفكك للروابط الاجتماعية وخلقت مجتمعا ثائرا على كل شيء حتى على نفسه، لأنها ليس لها أساس ولا مقصد حضاري، ودعك من عباراتهم فإنهم ينافقون! أو لا يعلمون!
الديمقراطية.. تقيم دولة الأهواء لا دولة العقل
فإن كنا ولا بد قابلين بالديمقراطية التي توافق شرعنا؛ بتفريغها من محتواها الفلسفي الفاسد، فلا مشاحة في الاصطلاح -مع أن اللفظ له ظلال تاريخية قبيحة بسبب تركيبته اللغوية- فإننا لا نقبل أن تكون الديمقراطية مثل ديمقراطية الهند التي حكمت بأرض لوثنيين على حساب المسلمين لأن قاضيين صوتا للوثنيين في مقابل قاض واحد حكم للمسلمين، وكان من اعتقاد القاضيين أن تلك الأرض ولد فيها الإله!!
ولا نريدها ديمقراطية رومانية فإنها صوتت بالأغلبية للطبيعة الإلهية للمسيح عليه السلام..!!
فهذه ديمقراطية تغيب العقل وتلغيه، وتسوي بين الخرافي والعاقل والعالم والجاهل، ومثل هذه الديمقراطية قد انتقدها أفلاطون وتلامذته أهل العقل والمنطق والقياس العقلي!! فبينوا أنها مخالفة لقوانين الطبيعة التي زعم بعضهم أنها أساس الدساتير الغربية!! وكذبوا فليس الناس كلهم سواء في الملكات والمؤهلات والقدرات. وصرح أفلاطون أن الديمقراطية الغربية تقيم دولة الأهواء لا دولة العقل!! (الطبائع للكواكبي ص:49).
ولا نريد ديمقراطية العلمانيين؛ ديمقراطية الاستبداد والاستعباد التي أفسدت وأهلكت الحرث والنسل!
إذن فليس هناك مشكلة عند السلفيين والإسلاميين عموما، وليس في الإسلام والشرع مشكلة في كل ذلك، المشكلة في عقول بني علمان..!
وحينما نقول: إنه لا مشكلة في تحكم الدين في السياسة، لا نكون مخالفين لمبادئ الدولة المدنية الحديثة وفق الفلسفة الغربية كما نظر لها كبار المؤسسين للفكر التنويري والفلسفة الحداثية النهضوية، لكن قومي لا يعلمون!
فها هو توماس هوبز صاحب كتاب (leviathan) المعروف بدعوته الواضحة إلى فصل الدين المسيحي عن الدولة وتشديده في ذلك فإنه أقر أن: الشرع والدين يمكن أن يصير قانونا للحكم إذا جعل قانونا لا بصفته دينا بل بصفته مدنيا اختير فقط من الدين كما في كتابه (leviathan/لفيتان/ص326/من نسخة بالإنجليزية):
قال ابن القيم رحمه الله في السياسة: (قال الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. وقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي؛ فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح وإن أردت ما نطق به فخطأ).
وقال رحمه الله: (هذا موضع مزلة أقدام وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بها مصالح العباد، وسدوا على نفوسهم طرقا عديدة من طرق معرفة الحق من الباطل، بل عطلوها مع علمهم قطعا وعلم غيرهم بأنها أدلة حق ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وأفرطت طائفة أخرى فسوغت منه ما ينافي حكم الله ورسوله.
وكلا الطائفتين أتت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل، وتبين وجه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه.
والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء ونفى غيرها من الطرق التي هي مثلها أو أقوى منها، بل بين ما شرعه من الطرق أن مقصودة إقامة العدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، لا يقال إنها مخالفة له، فلا تقول إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم وإنما هي شرع حق).
فإن كانت الديمقراطية تعني السياسة العادلة فقط ولا يكون لها علاقة بالتشريع فلا مشكلة!
شريعتنا خير الشرائع وأحسنها وأعدلها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يعرف فضلها وحسنها إلا جاهل، فإن كل من اطلع عليها بهرته، وكل من أخبر عنها بشيء أعجبته.
وقد اضطر خبراء فرنسيون لا عرب أن يثنوا عليها ثناء عطرا؛ فقد جاء في البيان الختامي لمؤتمر الفقه الإسلامي المنعقد في باريس عام 1951م: (إن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها).
وقال بعضهم : (أنا لا أعرف كيف أوفِّق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي وعدم صلوحه أساسا تشريعيا يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور.. وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها مما يثبت خلاف ذلك تماما ببراهين النصوص والمبادئ) اهـ. (نقلا عن المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى الزرقا ص:24).
إياك أعني فاسمعي يا جارة!

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *