يمكن اعتبار التربية والقيم وجهان لعملة واحدة، فهما يشكلان علاقة تكاملية وتلازمية في نفس الآن، ولا يمكن الفصل بينهما، فلا تربية بدون قيم، ولا قيم بدون تربية. لذلك فإن التربية على القيم، تمثل إحدى المهام الأساسية للسياسات التعليمية.
التحديد المفاهيمي
قبل الخوض في تفصيل وتحليل العلاقة الكائنة بين إشكالية القيم ومسألة التربية، نحاول أن نقوم بتحديد مفاهيمي للكلمات المفاتيح للموضوع، وهما مفهومي القيم والتربية.
القيم: يتسم هذا المفهوم بتعدد الدلالات والاستعمالات، وباختلاف الأهداف والمرجعيات، وذلك بحسب تعدد زوايا النظر إليه، وبحسب اختلاف المذاهب الفكرية، والتيارات الثقافية، والتوجهات الدينية. مما يجعله موضوع تعارض وصراع دائمين.
إجمالا، القيم جمع قيمة، والقيمة خاصية إن وجدت في الشيء جعلته مرغوبا فيه، أو غير مرغوب فيه، كالخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والعدل والجور، والجمال والقبح، والصدق والكذب. هذه الثنائيات تندرج ضمن أنواع كبرى من القيم، كالقيم السياسية: المواطنة، الديمقراطية… والقيم المنطقية: الصحيح والخطأ… والقيم الأدبية: الذوق والمتعة… والقيم الأخلاقية: الواجب والإيثار (1). وهي مكونات نفسية مكتسبة، توجه التفكير والسلوك لدى الفرد، وكذا رغباته واتجاهاته، وتحدد السلوك المقبول من المرفوض.
التربية: فعل التربية في مفهومه البسيط، هو محاولة نقل مجموعة من القيم إلى النشء، لينضبط لها، ويتصرف بناء عليها، بما يتوافق مع الحياة الاجتماعية (2).
وبالتالي فعملية التربية هي فعل قيمي في جوهرها، باستهدافها تقويم وتجويد السلوك البشري بشكل مباشر.
مدخل التربية على القيم في المدرسة المغربية
برجوعنا إلى التوجيهات الرسمية الصادرة عن وزارة التربية الوطنية المغربية، ندرك مدى الإلحاح حول تأصيل الطفل المغربي في التراث الإسلامي، وتجديره، واندماجه في حضارته العريقة. ففي معرض استعراضها للأهداف العامة، من مرحلة التعليم الأساسي على سبيل المثال، تذكر (وثيقة عمل لإصلاح النظام التعليمي) والتي أعدتها الوزارة سنة 1985م، بأن التعليم الأساسي يعمل على تحقيق الأهداف التالية:
– تثبيت العقيدة الإسلامية، المبنية على العقيدة والسنة، وغرس القيم الروحية في الناشئة، عن طريق العقل، والحواس، والوجدان، حرصا على التشبث بفضائل الإسلام، وأحكامه، لتكون الموجه للسلوك الذاتي للفرد، ولعلاقته بغيره.
– تعريف المتعلم بتراث أجداده، وأمجاد بلاده، حتى ينشأ محبا لوطنه، مخلصا له، مساهما في خدمته، وتقدمه، متمسكا بمقدساته.
– إكساب المتعلم القدرة على التواصل مع العالم الخارجي، أخذا وعطاء، بفكر مفتوح سموح، وعقل واعد متوقد، وإذكاء فضوله العلمي، وحفزه على البحث والتنقيب، والخلق والإبداع (3).
ثم جاء الميثاق الوطني للتربية والتكوين 1999م، لترسيخ منظومة القيم في السياسة التربوية الوطنية، بجعله التربية على القيم أحد المداخل الثلاثة للمنظور الإصلاحي الشامل للمنظومة التربوية، حيث نص الميثاق، ولاسيما قسمه الأول، المتعلق بالمبادئ الأساسية للمنظومة الجديدة للتربية والتكوين، سواء في ارتباطها بالمرتكزات الثابتة، أو الغايات الكبرى، أو حقوق وواجبات الأفراد والجماعات، على التربية على القيم.
والقيم التي تم إعلانها كمرتكزات ثابتة، تتمثل في:
– قيم العقيدة الإسلامية.
– قيم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية.
– قيم المواطنة.
– قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية (4).
من خلال هذا الإصلاح الجديد للمنظومة التربوية، تعمل المدرسة المغربية الحالية، على إقحام التربية على القيم في المناهج والبرامج التربوية. كما أن دور المدرسة في بناء قيم صالحة لتشييد صرح البناء الاجتماعي السليم والمتطور، وقدرتها على إشاعة القيم النبيلة في المجتمع، يعتمد حتما على بناء وتشكيل نظام القيم في الناشئة، وصيانة القيم الاجتماعية والإنسانية.
وتبقى المدرسة قادرة بما أوتيت من وسائل بشرية ومادية، على أن تؤدي وظيفتها على أكمل وجه، ولقد ظل المربون والباحثون يؤكدون، ومنذ عقود من الزمن، أن تحقيق الديمقراطية، وإرساء القيم الأساسية للمشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، مرهونان بتحقيق الديمقراطية في المؤسسة التعليمية التربوية، ويبينون في الوقت نفسه أن التربية على قيم المواطنة أمر يمكن أن يتحقق من خلال عمل مكثف، ومجهود متواصل من طرف الفاعلين داخل المدرسة، وذلك بهدف إرساء القيم، التي تكتسي أهمية خاصة، توازي، بل تفوق أهمية المعرفة المدرسية، لأن جميع المعارف المدرسية يجب أن تخضع للقيم وتتضمنها، كما يجب تضمين القيم في كل الأنشطة التربوية المدرسية.(5)
المنهاج الإسلامي منبع القيم التربوية:
لن نضيف جديدا إذا قلنا بأن المنهاج الإسلامي في التربية، هو منبع للمثل والقيم العليا، التي تصبوا إلى تحقيقها جميع الأنظمة التربوية، ذلك أن الإسلام دين قيم بامتياز، وأن جميع تشريعاته وأحكامه وتوجيهاته، ليست غاية في حد ذاتها، وإنما الغاية القصوى تتمثل فيما قاله الرسول :”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.(6) والقيم الاجتماعية هي بالدرجة الأولى مجموعة مبادئ أخلاقية، فالمنبع الرئيسي لها هي الآداب والمعتقدات الدينية.
لكن ما يؤسف له، أن قيما نحتتها شعوبنا العربية منذ شروق الإسلام، قد أورثناها للإنسانية، وأصبحت من تاريخنا وحضارتنا الغابرة، واستبدلناها ب”أخلاقيات العولمة”، مما أدى إلى إنتاج أجيال تائهة، مجهولة النسب والهوية، فارغة الروح…
على اعتبار أن الممارسة التربوية صمام أمان، وعملية أساسية في إنتاج وإعادة إنتاج القيم، التي يتم من خلالها تحويل الفرد من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي، فهي مدعوة في وقتنا الحاضر، وأكثر من أي وقت مضى، إلى بناء نسق قيمي جديد موجه للطفل المغربي العربي المسلم، يؤسس لتوازنات نفسية واجتماعية جديدة، ويرسخ فيه مبدأ الوعي والاعتزاز بتراثه وثقافته وتاريخه، ويجعله مدافعا عنها، ومساهما فيها كذلك. وهي مطالبة أيضا بنقل القيم الإسلامية السمحة بشكل أمين لأجيالنا المتعاقبة، وبالعمل على تحصينهم وتقوية شخصيتهم، والحفاظ على هويتهم العربية الإسلامية، والتي تصبح منطلقا وهدفا للعملية برمتها في آن واحد.
ومع أن القيم ذات بعد مجرد ويصعب قياسها بوسائل التقويم البيداغوجي المعتادة، إلا أنها قابلة للتعلم، وهذه الحقيقة التربوية أكد عليها نبينا بقوله: “إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، من يتحرى الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه…”(7)، فالحلم قيمة من القيم العليا، وفي هذا دليل صريح على أن سلم القيم يمكن بناؤه بسلوكات مكتسبة، مثله مثل باقي التعلمات.
فللمدرسة المسؤولية الكبيرة والدور الخطير، في تكوين المواطن الصالح بالشخصية المتكاملة، المتشبعة بالقيم الأصيلة، التي تجعله متمسكا بدينه الحنيف، ومتمكنا من لغته الوطنية، وواعيا بتاريخه العريق، ومحافظا على هويته وخصوصيته الثقافية، ومعتزا بانتمائه الديني والقومي والوطني.
ــــــــــــ
1- مفاهيم مفتاحية، دفاتر التربية والتكوين، المجلس الأعلى للتعليم، العدد:5- شتنبر 2011، ص:90.
2- امحمد عليلوش، التربية والقيم أية علاقة؟ مجلة علوم التربية، العدد:48- يوليوز 2011، ص:50.
3- محمد الدريج، المدرسة ودورها في التربية على المواطنة، دفاتر التربية والتكوين، المجلس الأعلى للتعليم، العدد:5- شتنبر 2011، ص:54.
4- الدليل البيداغوجي للتعليم الابتدائي، وزارة التربية الوطنية المغربية، الطبعة الثانية: 2009، ص:16.
5- عبد الرحيم الحسناوي، الثقافة المدرسية، مجلة علوم التربية، العدد:40- ماي 2009، ص:36.
6- السنن الكبرى للبيهقي، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1424هـ/2003م. (10/ 323)، حديث رقم: 20782.
7- المعجم الأوسط لأبي القاسم الطبراني، تحقيق طارق بن عوض الله, وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين – القاهرة، (3/ 118)، حديث رقم: 2663.