مَقَدِّمَة عَامَّة
مما يساعد على تقبل الأفكار والمذاهب الفاسدة الضارة وجود المناخ المناسب لنشأتها وانتشارها.
إن المناخ المناسب لانتشار الجراثيم الضارة، والأمراض الوبائية، يتجلى بانحجاب نور الشمس، وتراكم القذارات، والرطوبة، وتكاثف السكان، ونقص الغذاء.
كذلك نشأة المذاهب والأفكار الباطلة الفاسدة المفسدة، وكذلك انتشارها. إنها تنشأ وتنتشر حينما تغيب شمس الهداية الحقة، أو تحجبها حجب كثيفة، وتتراكم قذارات الأعمال الفاسدة، والانحرافات الخلقية، والظلم الاجتماعي، والضغط السياسي الظالم الآثم، والاضطهادات الجائرة، والأنانيات المفرطة، والفوارق الطبقية الفاحشة التي لا تقوم على قواعد الحق والعدل، والمولدة لصنوف الحقد والحسد والكراهية، والراغبة بالانتقام، ولو عن طريق الثورة المدمرة.
يضاف إلى ذلك تمكين عناصر الشر والفساد المجرمة من أن تعيث في الأرض فساداً، وتنشر بين الجاهلين ضلالاتها، وتستدرج ذوي العقول الصغيرة إلى شبكاتها، وذوي المطامع الكبيرة إلى مغرياتها.
وقد نشأت وانتشرت المذاهب الفكرية المعاصرة في الغرب أولاً، ثمّ امتدت إلى مختلف شعوب العالم، ثمّ زحفت بويلاتها وألوان زيوفها وفجورها إلى شعوب الأمة الإسلامية.
فعلينا أن ندرس المناخ الذي هيأ لنشأتها وانتشارها في الغرب أولاً، ثمّ ندرس المناخ المناسب الذي جعل شعوب الأمة الإسلامية تتقبل وافداتها، أو تستوردها أحياناً، وجعلها تسمح بانتشارها بين ناشئتها، رغم زيوفها ومفاسدها وشرورها الكثيرة.
الفصْل الأوّل: مُنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة في أوربَّا
باستطاعة الباحث أن يكتشف أهم العوامل التي هيأت المناخ المناسب لانتشار المذاهب الفكرية المعاصرة في أوروبا.
ويمكن إيجازها بالعوامل التالية:
العامل الأول:
التحريف في أسس الدين الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام، عقيدة وشريعة.
أ- فالإيمان بالله الواحد خالق الكون، وبأن عيسى عبد الله ورسوله، قد صار في عقيدة النصارى إيماناً بإله مثلث يتجسد، أو يحل بالإنسان، وهو ثلاثة أقانيم ( الأب، والابن، والروح القدس ).
ب- والعبادات قد دخلت فيها أوضاع بشرية كنسية مبتدعة، وهذه المبتدعات حملها النصارى مفاهيم غيبية، وفسروها بأن لها أسراراً مقدسة، وجعلوا لها طقوسا تمارس في مناسباتها، ويجب احترامها.
ج- والأحكام التشريعية معظمها أوامر وقرارات كنسية بابوية، ما أنزل الله بها من سلطان، وهي تحلِّل وتُحرم من غير أن يكون لها مستند من كتاب الله أو بيانات الرسول عليه السلام.
فدين من هذا القبيل مقطوع الصلة بالحق وبما أنزل الله من الحق، غير مؤهل لأن يكون له سلطان على العقول والنفوس في عصور التنوُّر الفكري، والتقدم الحضاري، وانتشار العلوم والمعارف المستندة إلى أدلة إثبات عقلية أو حسية تجريبية.
العامل الثاني:
الفتح الإسلامي الذي أيقظ العالم الغربي من سباته، ثمّ الفكر الإسلامي الذي امتد فأثار الإعجاب بمناهجه العقلية والعلمية القائمة على الحق، وعلى الأدلة البرهانية في القضايا النظرية، حتى في المسائل الدينية الكبرى، فضلاً عن القضايا الكونية القائمة على البحث والملاحظة والتجربة، للاستفادة مما سخر الله للناس في الكون، والتعرف على سنن الله فيه، واكتشاف القوانين الثابتة التي طبع الله كونه عليها.
العامل الثالث:
طغيان رجال الكنيسة، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم وإرضاء شهواتهم تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم، ويهيمنون بها على الجماهير الأمية الساذجة. ثمّ اضطهادهم الشنيع المريع لكل من يخالف أوامرهم السنية، أو يخالف التعليمات الكنسية المرعية المبتدعة في الدين، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، حتى ولو كانت أموراً تتصل بحقائق كونية تثبتها التجارب والمشاهدات العلمية المادية.
العامل الرابع:
الاتجاه الجاد في أوروبا والغرب عامة، للأخذ بأسباب التقدم الحضاري العلمي والمادي. ولما اصطدم هذا الاتجاه بجمود الكنيسة ومقاومتها للعلماء، حاول رويداً رويداً، فكرياً ثمّ عملياً، أن يعزل الكنيسة عن شؤون السياسة، الذي صادف هوى ملوك الغرب وزعمائه السياسيين الذين لا دين لهم، ثمّ عن شؤون الحياة ووسائل العيش وأساليب السلوك العام، الذي صادف هوى الشباب والشابات، بعد تغذيتهم بنزعة الحرية العمياء، كما صادف هوى كل الذين يصانعون الدين مصانعة وهم لا يؤمنون به. وبهذا العزل ينحصر سلطان الكنيسة في شؤون الدين الغيبية والروحية، وفي مراسيمه وطقوسه الخاصة. يتبع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كتاب “كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة” للشيخ الدكتور عبد الرّحمن حسن حَبَنّكة الميداني (ج1/ص:7-8-9-10).