عندي ملاحظات.. “ما زال الحمل على السلامة -عند الاحتمال-: شعار العارفين والصالحين والمتقين” رشيد مومن الإدريسي

ما زلت أسمع كما يسمع غيري قالات..، ولا زلت أقرأ كما يقرأ غيري كلمات..، ترد على وجه النقد – وربما كان هو عين النقض!- لمقال، أو لقول في كتاب أو مجلة شرعية، أو جريدة إسلامية،.. فيقول المنتقد: عندي ملاحظات..

وهذا بقصد النصح واجب من واجبات الدين، لقول النبي الأمين عليه الصلاة والسلام: “الدين النصيحة..” (1) لله رب العالمين، فما خلا أحد من خلل في الأقوال، ولا زلل في الأفعال، فـ” كل بني آدم خطاء.. ” (2)، و”ليس من شرط الصديق(3) أن يكون قوله كله صحيحا، وعمله كله سنة، إذ كان يكون بمنزلة النبي عليه الصلاة والسلام”(4).
إذن أخي الحبيب لاحظ وانتقد.. و”تكلم، فإن أصبت كنت مفيدا، وإن أخطأت كنت مستفيدا”(5).
لكن، كم من النصائح تحتاج إلى النصيحة..، فلا “تظنن أن كل تصريح نصيحة، ولا كل سكوت غشا وخذلانا ولصاحبه فضيحة”.
فالغريب -أيها اللبيب- أن يرجو صاحب النصيحة لنصحه الرضى، ولما يسلك في ذلك السبيل المرتضى..، ذلك أن الكثيرين في هذا الباب قد أبعدوا النجعة، وصاروا في ضيعة، وخالفوا مقتضى ما جاء في هذا الدين، وما جاء عن الأئمة المجتهدين..، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}..
فانتدابا للقيام بالفرض، وحرصا على تحقيق الغرض، وبعيدا عن كل ما هو عرض، أقول وبالله التوفيق ومنه العون والتحقيق:

الله الله في الإنصاف، فقد قيل: “احذر من كل من لا يُنصف، وكل من لا يفهَم، ولا تُكلم إلا من ترجو إنصافه وفهمه”(6).
قال الشاعر:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة *** بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
قال ابن حزم رحمه الله: “من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه، فإنه يلوح له وجه تعسفه”(7).
واحذر عند ملاحظتك العجلة، فـ”كلام العجلة والبدار موكل به الزلل، وسوء التقدير، وإن ظن صاحبه أن قد أتقن وأحكم”(8)، والعرب تقول: “الخطأ زاد العَجول”(9).
وقال أبو حنيفة النعمان رحمه الله: “أصلحك الله لا تكونن منك العجلة، وتثبت في الفتيا، فإن أنكرت شيئا مما أذكره لك فسل عن تفسيره(10) إن كنت مناصحا، فرب كلمة يسمعها الإنسان فيكرهها، فإذا أخبر بتفسيرها رضي بها”(11)، وصدق النبي الكريم حيث قال: “..العجلة من الشيطان..”(12).
كما يجب الحذر كل الحذر من أن يكون منشأ ملاحظاتك الحسد، فكما قال المعلمي اليماني رحمه الله: “وإنك لتجد من المنتسبين إلى العلم من يحرص على تخطئة غيره من العلماء ولو بالباطل، حسدا منه لهم(13)، ومحاولة لحط منزلتهم عند الناس”(14).
ألا قل لمن يات لي حاسدا *** أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه *** إذا أنت لم ترض لي ما وهب
واعلم أن إصدار الملاحظة على شيء هو ناتج عن تصور سابق لهذا الإصدار، ثم إن هذا التصور المستقر في المدركات لم يكن إلهاما ولم يأت من فراغ، بل كان ولابد له موارده خلصت إلى محل الإدراك، فبينت قاعدة من التصور كانت أساسا في ذلك، مع العلم أن هذا التصور قد تكون مقدماته ظنية، وعليه فالنتيجة تكون كذلك فتنبه.
يقول الأخضري:
فإن لازم المقدمات — بحسب المقدمات آتِ
ولما كان “الحكم على الشيء فرع عن تصوره” فـ”المسائل إذا تصورها الناس على وجهها تصورا تاما ظهر لهم الصواب، وقلت الأهواء والعصبيات، وعرفوا موارد النزاع، فمن تبين له شيء من ذلك اتبعه، ومن خفي عليه توقف حتى يبينه الله له، وينبغي له أن يستعين على ذلك بدعاء الله”(15).
وعليه فـ”متى لم تتبين لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبين لكم خطؤه، بل الواجب السكوت والتوقف، فإذا تحققتم الخطأ بينتموه”(16).
ومن المهمات في هذا الباب أنك إذا “أردت الإطلاع على كنه المعنى -حق أو باطل- فجرده من لباس العبارة، وجرد قلبك من النفرة والميل، ثم أعط النظر حقه، ناظرا بعين الإنصاف”(17).
قال بعضهم:
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة *** فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
“ومن أعظم التقصير: نسبة الغلط إلى المتكلم مع إمكان تصحيح كلامه، وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس”(18).
فـ”الكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عنه”(19).
ولذا قال ابن الوزير رحمه الله: “ما زال الحَمل على السلامة -عند الاحتمال-: شعار العارفين، والصالحين، والمتقين”(20).
ومنشأ ذلك التماس العذر، كما قال محمد بن سيرين رحمه الله: “إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا، فإن لم تجد له عذرا، فقل: لعل له عذرا”(21).
وحتى لا تظلم غيرك في ملاحظتك فاعتبر النيات والمقاصد فإن الألفاظ “لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدا لها مريدا لموجباتها، كما أنه لا بد أن يكون قاصدا للتكلم باللفظ مريدا له، فلا بد من إرادتين: إرادة التكلم باللفظ اختيارا وإرادة موجبه ومقتضاه، بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ، فإنه المقصود واللفظ وسيلة”(22) وهذا “هو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام”(23).
وصدق ابن القيم حيث قال: “فقيه النفس يقول: ما أردت؟ ونصف الفقيه يقول: ما قلت؟”(24).
كما لا يخفى على صاحب الذوق العربي أن مراعاة السياقات في هذا الباب من المهمات، فالسياق يرشد إلى بيان المعنى المراد فإن “كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار المساق في دلالة الصيغ”(25).
قال ابن ناصر السعدي رحمه الله: “يجب تقييد اللفظ بملحقاته من وصف أو شرط أو استثناء أو غيرها.
وهذا الأصل واضح معلوم من لغة العرب وغيرها ومن العرف بين الناس، لأنه لو لم يعتبر ما قيِّد به الكلام لفسدت المخاطبات، وتغيرت الأحكام، وانحل النظام، وهذا مطرد في كلام الله وكلام رسوله وكلام جميع الناطقين..” (26).
واجتنب أخي المفضال التعيير الذي يخرج مخرج النصيحة، ذلك أن “من أظهر التعيير إظهار السوء، وإشاعته في قالب النصح، وزعم أنه إنما يحمله على ذلك العيوب إما عاما أو خاصا.
وكان في الباطن إنما غرضه التعيير والأذى، فهو من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه”(27).
كما ينبغي لك التلطف في كلماتك كما قال الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}.
يقول الشاطبي رحمه الله: “إن الطعن والتقبيح في مساق الرد أو الترجيح(28)، ربما أدى إلى التغالي والانحراف في المذاهب، زائدا على ما تقدم، فيكون ذلك سبب إثارة الأحقاد الناشئة عن التقبيح الصادر بين المختلفين في معارض الترجيح والمحاجة”(29).
وكما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: “إنما الفتنة باللسان، وليست باليد”(30)، و”الفتنة إذا وقعت: عجز العقلاء عن دفع السفهاء”(31)، فـ”اكس ألفاظك أحسنها”(32)، والله المستعان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- متفق عليه.
2- صحيح الجامع.
3- ودونه من باب أولى وأحرى.
4- اقتضاء الصراط المستقيم 2/156.
5- قاله الخوارزمي كما في الفقيه والمتفقه 2/10.
6- مجموع رسائل ابن حزم 4/341.
7- الأخلاق والسير 8.
8- الأدب الصغير 122.
9- مجمع الأمثال 1/132.
10- مع التنبه أن (الاستفسار مع ظهور المقصود نوع من اللدد في الكلام، “وأبغض الرجال إلى الله الألد الخصم”) كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في درء التعارض 4/181.
11- العالم والمتعلم 55 له رحمه الله إن صحت النسبة إليه.
12- الصحيحة.
13- يقول الجاحظ: “وإن كان المحسود عالما قال: أي الحاسد: مبتدع، ولرأيه متبع، حاطب ليل، ومبتغي نيل، لا يدري ما حمل، قد ترك العمل، وأقبل على الحيل..”. رسائل الجاحظ 3/8.
14- القائد إلى تصحيح العقائد 13.
15- الفتاوي 12/13.
16- تاريخ نجد 2/161.
17- مفتاح دار السعادة 1/444.
18- الفتاوي 31/114.
19- المدارج 3/521.
20- العواصم والقواصم 5/14.
21- التوبيخ والتنبيه لأبي الشيخ الأصبهاني 97.
22- إعلام الموقعين 3/53.
23- نفسه.
24- نفسه 3/54.
25- الموافقات 3/153.26.
26- القواعد والأصول الجامعة 62-6327.
27- الفرق بين النصيحة والتعيير 34.
28- وفي باب النصيحة أظهر وأبين ..
29- الموافقات 5/288.
30- السنن الواردة في الفتن 171 لأبي عمرو الداني رحمه الله.
31- منهاج السنة 4/343.
32- كما قال الشافعي رحمه الله، انظر الإعلان بالتوبيخ 68.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *