حين يغرر إبليس بآدم.. الصراع بين الإسلام والعلمانية

الصراع بين الإسلام والعلمانية صراع طويل ضارب في القدم وتتمايز فيه المواقف حتى يصبح في بعض معاركه صراعا بين الكفر والإيمان، مهما زوقنا الألفاظ ونمقنا العبارة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمعتقدات أو بالمعلوم من الدين بالضرورة.

ولن نكون مجازفين إذا قلنا إن الصراع بين العلمانية والإسلام قد بدأ منذ الأزل، وذلك عندما وقع التمرد على الأمر الإلهي لأول مرة في الكون، وكان مرتكب هذا التمرد تكبرا وطغيانا هو إبليس أصل الشر فوق هذا الكوكب.

ولئن كان العلمانيون يحلو لهم في باب التنظير أن يأتوا بأساطير الإغريق واليونان والرومان، ليستنبطوا منها المبادئ والعبر، ويعطوا للفكرة امتدادا في التاريخ بغية التأصيل والبحث عن جذور معتقداتهم الغابرة في غياهب التاريخ الموغل في القدم، فإن المسلمين -ولله الحمد- لهم من القصص والحقائق والشرائع الربانية قطعية الثبوت واضحة الدلالة ما يغنيهم في وضع تصور رباني للكون والحياة والإنسان.

أما العلمانيون في ذلك فلا يبحثون عن الصحة ولا يهمهم ثبوت الأساطير من عدمه، إذ الهوى والعقل والإيمان والكفر تنمحي لديهم حدودهما فيتداخلان ويمتزجان لينتصر الإنسان على ذاته بعد أن ألغى فكرة الرب الخالق الآمر.

فلا مجال للحديث معهم عن الضوابط العلمية والمعايير الدقيقة في مصدر التصورات والمعتقدات بل يتعاملون مع النص كيفما كان مصدره أو مجاله كحقيقة لا تحتاج بحثا ولا أدلة لإثبات صدقها من كذبها، ولا ثبوتها من انتفائها، فما دام قد دوّن فهو يصلح أن يكون معطى “علميا” يرقى -في نظرهم- في مجال الاستدلال لتستنبط منه المبادئ ويستدل به على ما تشتهي أنفسهم وشهواتهم من شرائع ومعتقدات، بشرط ألا يكون نصا من القرآن والسنة.

ونحن بدورنا وعلى خلافهم لن نتجاوز القرآن والسنة الصحيحة إلى الأساطير والأراجيف في ما نريد الحديث عنه.

قصة إبليس قصة محورية في القرآن، تدلنا على منهجيته في الحجاج والاستدلال والإقناع.

وأتذكر وأنا أكتب أحد الشباب القاعديين في مستهل العقد التاسع من القرن الماضي بكلية الحقوق بالرباط وهو يتبجح بمدح الشيطان ويثني عليه معتبرا إياه أول معارض في الوجود، مع أن هذا القاعدي لم يكن مؤمنا أصلا بالخالق، وما ذلك إلا نكاية في الإسلاميين.

لقد قصّ علينا ربنا في آخر رسالاته للبشر قصة إبليس وردِّه للأمر الإلهي بالسجود وتعامله مع آدم عليه السلام، والحوارات التي دارت بينهما.

ولا شك أن تِكرار إيراد قصة آدم وإبليس في القرآن مرارا ليس تكرار مجردا بل هو في كل مرة يورد فائدة زائدة وعلما جديدا، إذ القاعدة أن الأصل هو التأسيس لا مجرد التأكيد.

وهذا التأسيس والتأكيد إنما يدلان على الحاجة البشرية في أخذ العبرة والعلم، لتتسلح بهما في صراعها مع الشيطان وحزبه من أجل الوصول إلى الحق والحقيقة؛ ليضع التصور الصحيح للكون والحياة والإنسان؛ إذ المسألة ليست مجرد سجال فكري بل هي قضية تحدد مستقبل الفرد بعد مغادرته للدنيا، فيوم القيامة سيتميز المؤمن عن الكافر مصداقا لقول الله تعالى: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ). يس:59-61.

فإما أن يكون الإنسان عبدا لله أو يكون عبدا للشيطان.

والقصة التي ذكرنا تجلي بوضوح كيف يمكن “للعقل” أن يتحايل على النص المتضمن لأمر إلهي صريح لا يقبل التأويل، مستخفيا بِظاهر “العلم” مستكبرا بخصائص المادة، متلفعا بالحجاج متظاهرا بعقلانية مادية رافضة لسلطة النص، ليصبح كافرا مطرودا من رحمة الله.

أخبرنا الله سبحانه وتعالى ببداية القصة حين أمر الملائكة بالسجود لآدم بعد أن نفخ فيه من روحه، فامتثلوا للأمر الفوقي الذي لا يعلوه أمر؛ إذ هو صادر عمَّن له الخلق والأمر.

سجد الملائكة أجمعون إيمانا وانقيادا دون فلسفة ولا استكبار إلا إبليس لم يكن من الساجدين، فسأله الجبار الخالق سبحانه:

(مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ).

فأجاب المخلوق الضعيف المزهو بأصل مادة خلْقه المستكبر عن طاعة خالقه: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).

عجبا!! أي تظاهر هذا بالعقلانية للتفلت من الأمر الإلهي الصريح الواجب الامتثال؟؟

وأي استدلال هذا بالعلم ومادة الخلق من مخلوق ضعيف لرد أمر الخالق العظيم الذي يعلم السر وأخفى؟؟

لقد ظن المسكين أن الدفع بحقيقة علمية فيزيائية في معرض الامتثال للنص والانقياد لأمر الخالق سيعفيه من تبعات موقفه المستكبر.

فأي مجازفة هذه عندما يصر المخلوق على معصية الخالق بل يضيف إليها تخطئة أمر الرب سبحانه؟؟

وكأن الشيطان يريد أن يحتج على من خلقه بأنه لم يراع أصل ما خلق، وهذا كاف في رد الأمر المضمن في النص، فتعالى الله عن هذا علوا كبيرا.

هيهات..

لقد كان جزاء هذه المنهجية العقلانية المادية المتبعة لشهوة النفس وهواها، أن غضب الله عليه فطرد من الجنة حقيرا صاغرا: (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) الأعراف:13.

ثم بعد هذه الخطيئة يختار إبليس مستقبله ووظيفته ويطلب من الله سبحانه أن يمهله إلى يوم البعث: :(قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

فأعطاه الله ذلك ليبدأ الصراع بين الحق والباطل: (قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) الأعراف:15.

فالحقائق الكونية والمعتقدات الشرعية عند إبليس لا يدخلها الشك، لكنه يتلاعب بعقيدته ودينه وعلمه متى شاء.

فهو يعتقد في البعث والنشور وهذا يقتضي إيمانه بالجنة والنار، لكنه أقر بالبعث لطلب الإنظار فقط، بغية الانتقام من آدم وَذُرِّيَّتِهِ.

وسنراه مرة أخرى يستعمل معتقده ودينه رغم سخط الله عليه، حتى يكيد لآدم ليجعله في موقف العاصي لأمر الله لينال نفس عقابه.

فلما أذن الله سبحانه لآدم عليه السلام بدخول الجنة والأكل والشرب من كل شجرها إلا شجرة واحدة، عمل الشيطان على دفع آدم بكل الطرق لكي يعيد قراءة النص حتى يخالف مراد الله منه.

قال الله سبحانه: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) الأعراف:20.

وتلك “الوسوسة” كانت -كما قال شيخ المفسرين الإمام أبو جعفر الطبري- قوله لهما: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ).

نراه هنا يسلك المنهجية العقلانية المادية التي تلوي أعناق النصوص الثابتة وتعيد قراءتها قراءة تفرغها من محتواها وغايتها، لتصبح تطبيقاتها مناقضة لإرادة الله وصريح أمره.

إنه يعلل الأمر الرباني ويفسره لهما، ويتحدث بكل عقلانية مستعملا أحدث مناهج التفكير داعيا إلى إعمال العقل، فعجيب أن يمنع الله آدم وحواء من الأكل لغير سبب، فهذا غير معقول.

ولماذا سيمنعهما الله من هذه الشجرة وقد أباح لهما كل شجر الجنة؟

لابد من إعمال العقل، ولابد أن يكون في الأمر شيء ما ليس مضمنا في النص؛ لذا وجب البحث والاستقراء والدراسة خارج الجدران الصامتة للنص المغلق.

ولأن الأمر هنا فوق التعليل إخترع إبليس أسلوب التشكيك والمؤامرة، وأقنعهما بأن الله منعهما من الأكل من تلك الشجرة حتى لا يصبحا مَلَكين أو يصبحا من الخالدين.

وقبل أن يقول لهما تلك المعلومة الخطيرة التي تغير قراءة الحكم في هذا النص -بزعمه-؛ مهد بأسلوب الاستفهام المشوق الفاتح للنفس البشرية الطموحة: (قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) طه:120.

استفهام مفعم بالإغراء بمستقبل زاهر ملؤه السعادة ووعد بحياة الرفاهية والخلد التي لا موت بعدها، ولا مرض ولا شقاء ولا فقر.

وأي آدمي يصبر على هذا الإغراء وهذه المصلحة العظيمة ويبقى تمسكه بالأمر والنهي قويا سوى إن كان كامل الإيمان؟؟

لم تنفع مناهج إبليس “الحديثة” في إقناع أبينا آدم عليه السلام بمخالفة أمر ربه، وذلك لقوة إيمانه بالله وخشيته له، ولم يقتنع آدم بتحصيل المصلحة لأنها خالفت نصا صريحا وإن لم يدرك حكمته وعلته، لكن اللعين لم ييأس لأنه لن يخسر شيئا فقد خسر كل شيء.

عاد ليستعمل أسلوبا ماكرا يصل به لإقناع عدوه بأن ما فهمه من النص ليس في مصلحته، لكن هذه المرة التجأ إلى أسلوب إيماني شبيه بأسلوب من يُبَدِّلون اليوم جلودهم، ويلتحقون بحامد صاحب “الصندوق الأسود” ومن شابهه، لكنهم لا يجرؤون على التصريح بما كانوا يعتقدون، فتراهم يحلفون بالله للناس حتى يقنعوهم بصحة مراجعاتهم وأنهم لا يخالفون فيها الدين؛ بل الدين هو الذي دفعهم لها، أما ما كانوا عليه من مظاهر التشدد، فكانوا يحسبونه دينا وشرعا لكنهم استيقظوا وفهموا بعد “دراسة” و”تأمل” أنهم استغفلوا.

لكن لا ضير فإبليس أيضا سيحلف بالله.

فلما لم ينفع الشيطانَ أسلوبُ الإغراء وتحصيل المصلحة في إقناع آدم، التجأ إلى القسم بالله على صدق نصيحته وحلف بالله على الكذب، فدلس الحقيقة وزور المعلومة للوصول إلى غايته: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) الأعراف:21.

فكانت نتيجة استدراجه لهما أن عصيا الرب فانكشفت عوراتهما، وأخرجهما بسبب المعصية من الجنة، رغم تحذير الله لهما: (فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) الأعراف:22.

لم يخطر ببال آدم عليه السلام أن أحدا من المخلوقات يمكن أن يحلف برب العزة على كذب.

فكم من المناهج الغربية يطالبنا العلمانيون بإعمالها في فهم الوحيين حتى نؤول نصوصهما ونعيد قراءتهما لنعيش حياة الرفاهية؟؟

أباحوا بعلمانيته الخمور والقمار والزنا ومنعوا الحجاب والتعدد، ويطالبون اليوم بالمساواة في الإرث وبإقرار حقوق الشواذ اللوطيين.

فكل ذلك مهما صادم نصوص القرآن والصحيح من السنة يؤولونه بنفس المنهجية، التي يدعون أنها علمية حديثة.

يسلكون كل المناهج التي وصلت إليها الحضارة الغربية بعد أن قطعت مع السماء ومع الوحي ومع الله، ليصلوا إلى نتيجة واحدة هي كشف السوءات والعورات بمعناهما العام الشامل؛ الذي نتجت عنه هذه الأرقام المخيفة من الأطفال المتخلى عنهم نتيجة الزنا، وتلك الملفات الفظيعة من الجرائم من قتل واغتصاب وسرقات وإجهاض.

لكن الأخطر من هذا كله أن نرى العلماء والمصلحين يتحرجون من الصدع بما جعلهم الله أمناء عليه، وبما استحفظوا من شرع الله المضمن في كتابه، والذي أمر الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغه دون حرج وهم في ذلك تبع:

(كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين) الأعراف:2.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

إبراهيم الطالب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *