الحج فريضة جلت في مقاصدها، وعظمت في منافعها، وصدق الله تعالى إذ يقول في كتابه: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحج:27، 28)..
ولقد حوى الحج من الحكم أعلاها، ومن المقاصد أسماها، ومن المنافع أشرفَها وأزكاها.. ومن هذه المقاصد الجليلة:
أولا: رفع منار التوحيد
وهذا مقصد بارز يبدأ مع أول خطوة في الحج في تلبية الحج مع نيته ويستمر إلى آخر حجر يرميه الحاج آخر أيام التشريق في منى.
كانت قريش تلبي وتشرك في تلبيتها وتقول: “لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك”.
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فلبى بالتوحيد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). فأعلن بالتوحيد وصدع به وصدح.
وفي عرفات قال صلى الله عليه وسلم: (خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيونَ مِن قبلي لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ)(رواه الترمذي).
وعلى الصفا والمروة: فقد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: (لَمَّا دَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) [البقرة:158] أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكبَّرَهُ وَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذلكَ. قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ) الْحَدِيثُ. وَفِيهِ: فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا.
وفي الطواف يقرأ في ركعتي الطواف بسورتي التوحيد، (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
لتعلم الأمة أهمية التوحيد؛ فإنه أصل الدين وأسه، وهو قلبه ورأسه، فإذا ذهب التوحيد ذهب الدين، ومن أشرك بالله فهو من أهل النار (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار)(المائدة:72)ٍ.
ثانيا: إعلان المساواة بين المسلمين، ونبذ العنصريات، والقوميات، والوطنيات، والتحزبات الباطلة، وكل دعوات الجاهلية التي تفرق وحدة الأمة وتمزقها.. قال صلى الله عليه وسلم: (يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ، ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ، ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسْودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى) (رواه أحمد في مسنده).
فميزان التفاضل الوحيد الذي أقره الله هو ميزان التقوى (يا أيها لناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)[سورة الحجرات: 13]
ثالثا: حقن الدماء وحفظ الأموال، وصيانة الأعراض، وحفظ حقوق العباد
فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحج: (فإنَّ دِمَاءَكُمْ، وأَمْوَالَكُمْ، وأَعْرَاضَكُمْ، وأَبْشَارَكُمْ، علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا)(صحيح البخاري). وقال في حديث آخر: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّب الزَّانِي، والنَّفْس بِالنَّفْسِ، والتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ) (متفق عليه). وقال: (كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ) (رواه مسلم).
فإلى الذين يقتلون المسلمين بغير حق ويلغون في دمائهم.. قال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء:93).
وإلى الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، أموال الموظفين أموال العاملين، أموال السائقين والخدم، وإلى النصابين والسارقين والغشاشين والمرتشين، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ، فقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ له النَّارَ، وَحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ فَقالَ له رَجُلٌ: وإنْ كانَ شيئًا يَسِيرًا يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: وإنْ قَضِيبًا مِن أَرَاكٍ) (رواه الجماعة إلا البخاري).
رابعا: تأصيل معنى التسليم لله ولرسوله
فمن مقاصد الحج بل من أعظم مقاصد الحج: تأصيل معنى التسليم لله تعالى في جميع حكمه وأمره وشرعه.. والاستسلام الذي هو أصل الدين ومفهوم العبودية الصحيحة. وهذا مبدأ يقوم عليه الحج كله، في أعماله وأقواله وأفعاله، ومناسكه وأماكن المناسك، عبودية كاملة ورضوخ كامل لأمر الله، وطاعة مطلقة لرسول الله: (خذوا عني مناسككم) رواه مسلم.
وهذا التسليم هو حقيقة الإسلام، كما قال تعالى: (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ) (لقمان:22) ، وقال عن إبراهيم: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(البقرة:130، 131).. وقال سبحانه: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(النساء:65)، وقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)(الأحزاب:36).
وخلاصة الأمر ما جاء في صحيح مسلم عن عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ أنه كان يُقَبِّلُ الحَجَرَ ويقولُ: “وَاللَّهِ، إنِّي لأُقَبِّلُكَ، وإنِّي أَعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ، وَأنَّكَ لا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قَبَّلَكَ ما قَبَّلْتُكَ”.
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته: “ولا يثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام”.