التراويـح تشتــكي ناصر عبد الغفور

 

 

تعتبر صلاة التراويح من أعظم السنن التي دأب عليها سلفنا الصالح ومن تبعهم بإحسان في كل بلد من بلاد الإسلام ومنهم بلدنا الحبيب أمنه الله من كل سوء.

ويكفي في بيان فضل هذه الصلاة أن من أدها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: “من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” متفق عليه.

فياله من خير عميم وفضل عظيم من رب رحيم لمن قام هذه الليالي المباركات مؤمنا بسنيتها ومحتسبا لأجرها.

وقد كان المغاربة في قريب الأزمان يحيون ما تيسر من هذه الليالي بجد ونشاط ويصلون التراويح بتؤدة وطول قيام، فكان الإمام لا يقرأ بأقل من وجه أو ثمن حزب في الركعة الواحدة في معظم المساجد وهناك من يقرأ بأكثر من ذلك.

ولعلنا نكتفي بمثال واحد وهو مسجد الحسن الثاني وكيف كانت تقام صلاة التراويح فيه بإمامة المقرئ الكبير عمر القزابري.

وأما دور القرآن فلا تسل عن طول القيام والركوع والسجود…

وكم كانت اللذة الإيمانية تغمر المغاربة عند خروجهم من المساجد بعد أدائهم لصلاة التراويح، لذة تنسيهم تعب القيام مهما طال، ليقينهم أنها سبب للذة العظمى والفرحة الكبرى عند لقاء ربهم ونوال أجرهم.

لكن وللأسف الشديد بدأ المغاربة يفقدون هذه اللذة بعد صدور قرار أراه ظالما جائرا في حقنا كمسلمين، فقد “دعا المجلس العلمي الأعلى، التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، جميع الأئمة والخطباء بتخفيف القراءة في صلاة التراويح خلال شهر رمضان”.

وهذا ما تم تحقيقه على أرض الواقع، فلم يعد بإمكان الأئمة تجاوز بضع آيات في كل ركعة، وصاروا مضطرين إلى المبالغة في التخفيف، حتى أنني أشعر وكأننا في سباق للوصول إلى التسليمة الأخيرة، والله المستعان.

فما محل هذه القرار من الإعراب، وهل بلغ الأمر بهذه الوزارة إلى التضييق على المغاربة حتى في قيام أشرف الليالي؟

ولماذا لا يصدر مثل هذا القرار أقصد قرار التخفيف في حق المهرجانات الماجنة والسهرات الآثمة كموازين وغيرها كثير لا كثرها الله، حيث يقف الناس الساعات الطوال وربما الليالي الكاملة لمشاهدة حفلات الغناء والرقص، لماذا لا تنظر الوزارة المعنية بالشؤون الدينية إلى هذا القيام وتصدر القرار بمنعه أو على الأقل بتقليصه وتخفيفه؟

أم أنها أشفقت علينا دونهم، محتسبة الأجر والثواب في تخفيف قيامنا بين يدي الرحمن، ولم تر نفس الأجر في تخفيف قيامهم بين يدي مزامير الشيطان؟

إن وزارة الأوقاف بقرارها هذا تهدف -شاءت أم أبت- إلى قتل روح هذه الصلوات المباركات ألا وهو الخشوع، فأي خشوع في صلاة أصبحت تنقر نقر الغراب، في قيامها وركوعها وسجودها وتشهدها؟

فالصلاة لها “ظاهر وباطن، فظاهرها: الأفعال المشاهدة والأقوال المسموعة، وباطنها الخشوع والمراقبة وتفريغ القلب لله والإقبال بكليته على الله فيها، بحيث لا يلتفت قلبه عنه إلى غيره. فهذا بمنزلة الروح لها، والأفعال بمنزلة البدن، فإذا خلت من الروح كانت كالبدن لا روح له…”([1]).

وكيف سيتحقق الخشوع في صلاة بالمقياس الذي تريده الوزارة الوصية على تنظيم الحقل الديني في بلدنا المسلم السني؟

إن الوزارة بقرارها المجحف ذاك تريد أن تجعل نظرة المغاربة معارضة تمام التعارض للنظرة التي يجب أن ينظرها المسلم للصلاة وهي “أرحنا بها يا بلال” وليس “أرحنا منها يا بلال”، ” فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم: “يا بلال أرحنا بالصلاة” ولم يقل أرحنا منها”([2]).

فالصلاة محطة للراحة والسكينة والطمأنينة، وكيف لا والمصلي يكون بين يدي الله جل جلاله يناجيه ويدعوه قربيا منه سبحانه…فتقر عينه به ويحق لها ذلك.

وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة” -ص ج:3124- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “لم يقل حبب إلي ثلاث، فإن المحبب إليه من الدنيا اثنان، وجعلت قرة عينه في  الصلاة فهي أعظم من ذينك ولم يجعلها من الدنيا”([3]).

ألم تعلم الوزارة الوصية أن التراويح ما سميت بهذا الإسم إلا لأن المصلين كانوا يصلون ركعتين أو أربع ويرتاحون، مما يدل على أنهم كانوا يطيلون القيام، وإلا فما معنى الراحة أثناء صلاة سريعة في قيامها وركوعها وسجودها وأذكارها وتشهدها وفي كل أفعالها وأقوالها، ووالله لا أكاد أسجد وأشرع في التضرع بين الله جل في علاه حتى أسمع تكبيرة الإمام للرفع من السجود… كذلك التشهد لا أكاد أبدأ في الصلاة الإبراهيمية حتى أفاجئ بتسليم الإمام دون التمكن من إتمامها بله أن آتي بالتعوذات الأربع…

ولا ريب أن هذا إخلال بالصلاة، إذ لا فرق بين صلاة الفريضة وصلاة النافلة في وجوب الإتيان بهما على الوجه المرضي والصفة المشروعة: “وقد نبه العلماء على هذا فيما يتعلق بصلاة التراويح فقال النووي في الأذكار: في باب أذكار صلاة التراويح:

وصفة نفس الصلاة كصفة باقي الصلوات على ما تقدم بيانه ويجيء فيها جميع الأذكار المتقدمة كدعاء الافتتاح واستكمال الأذكار الباقية واستيفاء التشهد والدعاء بعده وغير ذلك مما تقدم وهذا وإن كان ظاهرا معروفا فإنما نبهت عليه لتساهل أكثر الناس فيه وحذفهم أكثر الأذكار والصواب ما سبق.

وقال العامري في “بهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص السير والمعجزات والشمائل” في أواخر الكتاب:

ومما يتعين الاعتناء به والتنبيه عليه ما اعتاده كثيرون من أئمة المصلين بالتراويح من الإدراج في قراءتها والتخفيف في أركانها وحذف أذكارها وقد قال العلماء: صفتها كصفة باقي الصلوات في الشروط وباقي الآداب وجميع الأذكار كدعاء الافتتاح وأذكار الأركان والدعاء بعد التشهد وغير ذلك”([4]).

وأخيرا أكاد أجزم أن هذا القرار سياسي من الدرجة الأولى رغم إنكار بعض المنتسبين للوزارة لهذه الحقيقة، ولا يبعد أن يكون من إملاء الغرب الذي يحاول جاهدا طمس معالم ديننا بقراراته وإملاءاته المجحفة… “يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ”.
—————————————
([1] ) كتاب أرسله الحافظ ابن القيم إلى بعض إخوانه- ص:60-61.
([2] ) -الوابل الصيب:34-.
([3] ) الصفدية: 2/272.
([4] ) التراويح للأباني- ص:121.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *