تأملات في العقيدة والمنهاج بقلم العلام الدكتور الحسن وجاج المغربي الحلقة السادسة

النموذج الخامس: حجية أخبار الآحاد

من المناهج التي تعتبر في نظري من طلائع الغزو الفكري؛ ما أقره الخلف حول أحاديث حجية الآحاد، جاء في شرح الطحاوية أن طريقة أهل السنة في إثبات العقائد، ألا يعدلوا عن النص الصحيح وألا يعارضوه بمعقول ولا قول فلان، وجاء فيه أيضا أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وجاء في كتاب “أصل الاعتقاد” للدكتور عمر الأشقر أن علماء السلف الصالح يرون أن كل ما أخبرنا به الله وأخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم ووصل إلينا بطريق صحيح يجب الإيمان به وتصديقه، وأنهم لا يفرقون بين الخبر المتواتر وخبر الآحاد إذا كان صحيحا، بل يثبتون العقائد بهما من غير تفريق.
قلت: هذه طريقة السلف، وأما الخلف فقد غيروا هذه الطريقة وأحدثوا الفرق بين المتواتر والآحاد في إثبات العقائد؛ فمرة يقولون: لا تثبت العقائد إلا بالمتواتر دون الآحاد، ومرة يقولون لا تثبت العقائد بالقرآن والحديث إلا إذا كان النص قطعي الدلالة، ومعنى هذا أن جماهير الخلف بعدما انخدعوا بالحجة العقلية صاروا يقللون من قيمة النصوص النقلية فتوسلوا إلى ذلك باستعمال سلاح التواتر ضد الآحاد الذي يمثل تسعة وتسعين بالمائة من نصوص السنة، ثم توسلوا بسلاح الدلالة القطعية ضد النصوص المتواترة من الكتاب والسنة، كل ذلك لتتم لهم هيمنة العقل على النقل، وقد فعلوا، ولذلك قال السنوسي في شرح الكبرى: “وأما من زعم أن الطريق إلى معرفة الحق الكتاب والسنة ويحرم ما سواهما فالرد عليه أن حجيتهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي، وأيضا فقد وقعت فيهما ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر عند جماعة وابتدع”!!
ومشكلة حجية أخبار الآحاد كانت قديمة بين السلف والخلف نجد لها جذورا في كتب الإمام الشافعي والإمام أحمد، ونجد لها صدى في كتب ابن تيمية، ومما قاله رحمه الله: “وذكره ابن الصلاح وصححه واختاره ولكن لم يطلع على كثرة القائلين به ليتقوى بهم،…وظن من اعترض عليه من المشايخ الذين لهم علم ودين وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن هذا الذي قاله أبو عمرو بن الصلاح تفرد به عن الجمهور، وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب، فإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى السيف الآمدي وإلى ابن الخطيب، وإن علا سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني”.
ثم قال ابن تيمية: “وجميع أهل الحديث على ما ذكره ابن الصلاح، والحجة على قول الجمهور أن تلقي الأمة للخبر تصديقا وعملا إجماع منهم والأمة لا تجتمع على ضلالة”.
قلت هكذا تلاحظون معي مراحل الصراع بين السلف والخلف حول حجية أخبار الآحاد؛ فالجانب السلفي يثبت بحجج قوية أنه يفيد العلم إذا تلقته الأمة بالقبول واحتفت به القرائن، والجانب الخلفي يثبته على أنه إنما يفيد الظن، وقد انتشر مذهب الخلف في هذه المسألة من هذا العصر حتى كاد ينسى القول الحق ويستغرب من قائله! الشيء الذي دعا الشيخ محمود شلتوت في رسالة التوحيد في كتابه “الإسلام عقيدة وشريعة” إلى الجزم بأن كون أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن محل اتفاق وإجماع بين المسلمين، وبناء على هذه القاعدة أنكر نزول عيسى في آخر الزمان وأنكره محمد عبده؛ [التفسير والمفسرون الذهبي ص 54 ج 2]، ومحمد رشيد رضا ينكر أحاديث المهدي في تفسير المنار ج1 ص503.
أقول -والأسف يملك علي نفسي وقلبي-: هل يليق بجماهير الخلف أن تتنكر لمنهاج السلف في حجية أخبار الآحاد وتصر على منهاج أهل الكلام الأقدمين في هذه المسألة الخطيرة؟ وهل يرجى لهذه الجماهير أن تنهض وهي لا تحاول أن تغير المنكر في مؤلفاها وفي نفوسها، {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا مات بأنفسهم}، وأقول مرة أخرى: أيها الطلاب؛ أي الخطرين أعظم وأنكى: خطر تخريب قوم حصونهم من داخلها، أم خطر محاولة الأعداء إحداث ثقوب وشقوق من خارجها؟
فهذا مثل مضروب لحالة خلف المسلمين الذين سلطوا بدعة التأويل على بعض نصوص الوحي وردوا البعض الآخر منها بدعوى أنها لا تفيد العلم، ولما أرادوا صد التيارات المعاصرة وإغلاق الأبواب في وجه الغزو المعاصر لم يستطيعوا، لأن طلائع الغزو الفكري القديمة المتمثلة في الكلام والمنطق والتأويل وتقديم العقل على النقل ورد أخبار الآحاد وغير ذلك مرابطة داخل حصونهم، وليس هذا فقط بل ابتكرت قرائح الخلف قاعدة أخرى بدلا من رد أخبار الآحاد ولو كانت صحيحة، وهذه القاعدة هي قولهم: “يجوز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *