التربيةُ والتعليم وظيفة الأنبياء والرّسل، وهي معيارُ حضارةِ الشعوب وسَبق الدول.كيف لا؟ وأوّلُ ما سُلح به آدم هو التعليم قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}البقرة:31.
فالإنسان يُخلق عالما عابدا، عكس من ينسب الأمية والجهل للإنسان ويفتري عليه الباطل. وأذكر تمثيلا قول الشاعر الجاهلي المعاصر إليا أبو ماضي في طلاسمه :
جئت، لا أعلم من أين؟ ولكنّي أتيت!
ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت!
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت.
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!
فكيف يتصورعاقل ما قاله إليا؟ والقرآن نفسه إنما أنزل ليعرف الناس بحقيقة وجودهم، ويزودهم بجواب كل الإشكالات التي قد تعترضهم في حياتهم1 ، كيف لا يتصور ذلك؟ والبعثة النبوية المحمدية إنما كانت للتعليم والتوجيه و… يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}الجمعة:2
فكان محمد صلى الله عليه وسلم أوّل معلّمٍ لهذه الأمّة؛ في أوّل مدرسةٍ في الإسلام؛ مدرسة دار الأرقم التي كانت قرب المسجد الحرام ببكة المباركة، ناحية جبَل الصفا، ومن ذلك المعلِّم؛ وفي تلك المدرسة؛ وبأولئك الطلبة صَاغ المسلمون نواةَ حضارتهم2 ، وحينها فقَط سمِع العالمُ يومئذ بالعرب، إذ كانوا قبل ذلك على هامِش الأحداث وفي ذيل الأمَم. فحولتهم التربية الإسلامية والتعليم النبوي الشريف إلى ما أصبحنا نسمع عنهم اليوم.
إن هذا المنهج في التربية والتعليم كان بمثابة عملية صياغة للمجتمع كله، وبمثابة صناعة لجيل الصحابة وتأهيله وتوجيهه. وبهذا تغيَّرت حياةُ الأعراب الجفاة عبدَةِ الأوثان في سنواتٍ قليلة، فأصبحوا قُدوةَ الدنيا وقادةَ العالم، وخلَّدوا سِيَرًا لا زال شذا عِطرِها يفوح، ونورُ هُداها يُقتَبَس إلى يومِنا هذا.
فالتربية لباسٌ يفصل على قامة المربى، وينبثق من عقائده، وينسجم مع أهدافه وآدابه. وعليه يجب أن تكون مناهج التربية وطرائق التعليم قائدةً إلى الإيمان، قاصدةً إصلاح الأنفس، وتهذيب الأخلاق ، فتصبغُ التربية بصبغة الربانية، والتعليم بصبغة الإيمان، {وَلَـٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} آل عمران3 . فتؤخذ العقول حينها بميزان الدنيا والآخرة جمعا لا تفريقا.
إن المدارس ودور التعليم في كافة مستوياتها هي محاضن الجيل، وهي الحصنُ الحصينُ لحماية الأمة، وللحفاظ على أصالتها وبقائها ونقائها. لأنها تحوي أثمن ما نملكه: الكنز والثروة البشرية، ثروةٌ تتضاءلُ أمامها كنوزُ الأرض كلها، إنها سواعد بناء مستقبل صرح هذه الأمة:أولادنا.
وشرُّ ما يطرأُ على هذه المعاقل والحصون أن تؤتى من قبل من وُكِلَ إليهم رعايتُها وصيانتُها، وتكون الخيانةُ العظمى حين يُفتح الباب على مصراعيه؛ ليتسلل المغرضون ليلاً أو نهاراً في غفلةٍ من الحماة الصادقين؛ فتحل المصيبة: التبعية “القطيعية!!” والتقليد الأعمى.
إن من أشنع الجرائم التي ترتكب في حق أي مجتمع أن يتم استيراد منهج من مناهج الدول الغربية ليُخضَع له أفراده4 . وهذا لا يتعارض مع ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها” . لأن الذي جعلها ضالة المؤمن هو أنها حكمة وإلا فليست ضالة ولا هو أحق بها5. والمناهج التي ليس فيها حكمة ولا منفعة بالتأكيد لن تدخل في ضالة المؤمنين، بله إن لم يكن فيها إلا ما يدمر الحكمة ويفسد الفطرة ويشين الخِلقة.. وينتهي بالإفلاس كما هو الحال عليه اليوم عند مصدري هذه المناهج التربوية إلى بلادنا.
إن التربية والتعليم والمناهج الدراسية حقٌّ سياديٌّ وشأنٌ داخليّ للأمة؛ ولهذا فكل استيراد مناهج التربية من أمَةٍ أخرى بكلّ عُجَرها وبُجَرها خطأ كبير، وتبعيّةٌ خطيرة، تعني في الحقيقة نشأةَ جيل مغيَّب عن تراثه وتاريخه، ومقطوعِ الصلةِ بعقيدته ومبادئ دينه، ومسخًا لهويّته..
إن المناهج التعليمية لأية أمة إنما تحمل الطابع الأساسي لأعراف وتقاليد تلك الأمة، الأعراف المبنية في الأساس على القيم الروحية والدينية، والمثل العليا.6. فكيف نسمح باستنساخها ونعلم أنها مخالفة لكل مقوماتنا؟!
ولهذا يعتبر الغرب نفسه وعلى رأسهم “إسرائيل”7 مناهج التعليم الديني هي العاصم من فتنة الوقوع في التقليد، والعاصم كذلك من الانحطاط في براثن التبعية العمياء… على عكس واقع الأمة الإسلامية اليوم! التي اتخذت كتاب ربها ظهريًا، وأدارت عنه وجه الاستفادة والاسترشاد، والتدبر وطلب السداد، فكانت النتيجة أن أعرض عنها الكتاب. فلا المناهج التغريبية نفعتها، ولا القيم الغربية الهزيلة قدَّمتها وطورتها.
ولا بد أن يعلم المسلمون أن غيرهم يتمسك بباطله الذي بين يديه ويعتز به وهو باطل، وأن التعليم الديني والمناهج الإسلامية هي آخر الحصون التي يمكن أن يتحصن بها المسلمون. فإنه لن يتبقَّ للأمة ما تتحصن به غير كتاب ربها وسنة رسولها وأحكام دين بارئها… فأمتنا إنما تبقى محافظة على كيانها، مدركة لمسؤولياتها ثابتة في موقعها، حين يربى صغارها ليكونوا ورثةً حقيقيين للإسلام. وليس غير الإسلام؟
فهذه الأمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير أمة أخرجت للناس: منزلتها الصدارة، ومرتبتها القيادة، ورمزها الريادة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}البقرة: 143. إنها مصدرُ الأصالة، ومنبر التوجيه، ومنار التأثير، هكذا أراد الله لها إن هي استقامت على المنهج، وقامت بالحق {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} آل عمران: 110.
—————-
1- لأنّ العلمَ الشرعيَّ الصافي ضمانةٌ – بإذن الله – ضدَّ الانحرافات الفكرية والعقدية.
2- و التاريخ يعيد نفسَه، وما أشبهَ الليلة بالبارحة، ولن يَرفعَ شأنَ هذه الأمة ولن ينهَض بها إلاّ ما نهض بها في سابقها.
3- وعندنا في رواية ورش تَعْلَمون .
4- وقد جاءني أحد الآباء يشكو لي درسا في الفرنسية بالقسم السادس إبتدائي درس لابنه فيه ما يزعزع عقيدة كبار المسلمين وليس صغارهم . وهو عبارة عن حوار بين فيلسوف وبين الله ؟؟؟!!!
5- من حديث أبي هريرة ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي الرقم : 2687
6- وليس كما هو الحال في الحضارة الغربية: مناهج فارغة من كل هذا ..
7- ويمكن الرجوع إلى مناهجها التعليمية التي أسستها على أساطير وأحلام تلمودية وتوراتية محرفة لا صلة لها لا بالإنسانية ولا بـ ….