اعلم أن العمل لا يكون صالحًا ولا مقبولاً إلا إذا توفر فيه، ركنان هما:
الأول: الإخلاص لله عز وجل.
الثاني: المتابعة للنبي عليه الصلاة والسلام.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “وهذان ركنا العمل المتقبل: لا بد أن يكون خالصًا لله صوابًا على شريعة رسوله عليه الصلاة والسلام”.
وقد دل على هذين الركنين قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
وقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) وغيرها من الآيات.
ولهذا كان لزامًا على العبد أن يحقق هذين الركنين في جميع أعماله، وأن يجاهد نفسه في ذلك وخاصة أن الإخلاص من أشق الأمور على النفوس، وهذه المشقة لا يعاني منها إلا العلماء العالمون بالله تعالى، بل إن كثيرًا من العلماء والصالحين لاقوا هذه المعاناة.
يقول سفيان الثوري رحمه الله: “ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي لأنها تتقلب علي”.
وقال سهل بن عبد الله: “ليس على النفس شيئًا أشق من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب”.
وقال يوسف بن الحسين الرازي: “أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء. وكأنه ينبت فيه على لون آخر”.
ولأجل ذلك احتاج المخلص إلى قوة إرادة وعزيمة قوية، وإحياء لواعظ الله عز وجل في قلبه وإلى محاسبة للنفس ليردها إلى الطريق المستقيم كلما أرادت الانحراف إلى الرياء والسمعة والعُجب وغيرها من الأمراض التي تفسد الأعمال أو تنقص أجرها.
والمخلص كذلك يحتاج إلى متابعة ومطالعة سير وأخبار السلف الصالح وما كانوا عليه من الإخلاص وإخفاء الأعمال.
ومما يعين المخلص على الإخلاص معرفة نواقضه، ومن أعظم نواقض الإخلاص الرياء.
لذا كان من المهمات الحديث عن الرياء والتحذير منه تنبيهًا للنفس من هذا الداء العضال ولجميع المسلمين ممن يقرءون هذه الكلمات.
تعريف الرياء
الرياء لغة:
الرياء مصدر راءى، ومصدره يأتي على بناء مفاعلة وفعال. وهو مهموز العين؛ لأنه من الرؤية، ويجوز تخفيفها بقلبها ياء.
وحقيقة الرياء لغة: أن يرى غيره خلاف ما هو عليه.
يقول الفيروزآبادي: وراءيته مراءاة ورياء: أريته على خلاف ما أنا عليه.
الرياء اصطلاحًا:
تنوعت عبارات السلف في تعريف الرياء، ومدارها على شيء واحد هو: أن يقوم العبد بالعبادة التي يتقرب بها لله، لا يريد الله عز وجل بل يريد عرضًا دنيويًّا.
قال العز بن عبد السلام: “الرياء إظهار عمل العبادة لينال مُظهرها عرضًا دنيويًّا إما بجلب نفع دنيوي أو تعظيم أو إجلال”.
وقال القرطبي: “حقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس”.
وقال الحارث المحاسبي: “الرياء إرادة العبد العباد بطاعة الله”.
وقال الغزالي: “هو طلب الجاه والمنزلة بالعبادات”.
وقال أيضًا: “وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإرائهم خصال الخير”.
وقال الحافظ ابن حجر: “هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس فيحمدوا صاحبها”.
وقال الصنعاني: “الرياء أن يفعل الطاعة، ويترك المعصية مع ملاحظة غير الله. أو يخبر بها، أو يحب أن يُطَّلَع عليها لمقصد دنيوي من مال أو نحوه”.
فجمع الإمام الصنعاني رحمه الله في تعريفه بين الرياء والسمعة.
الفرق بين الرياء والسمعة
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: “من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به”. متفق عليه.
وفي لفظ: “من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به” رواه مسلم.
أما الرياء فسبق تعريفه، وخلاصته: إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدون صاحبها.
وأما السُّمْعة فهي مشتقة من سمع. والمراد بها نحو ما في الرياء لكنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر.
وعلى هذا فالتسميع لا يكون إلا في الأمور التي تسمع كقراءة القرآن؛ وذكر الله تعالى؛ والوعظ وغيرها.
والرياء يكون في الأعمال التي ترى كالصلاة والصدقة ونحوها.
إلا أن بعض العلماء يرى أن التسميع أوسع من هذا، فيدخل فيه تحدث الإنسان عن أعماله وإخباره بها التي لم يطلع عليها المتحدث.
وممن ذهب إلى هذا العز بن عبد السلام، كما حكاه عنه الحافظ ابن حجر في الفتح بقوله: “وقال ابن عبد السلام: الرياء أن يعمل لغير الله، والسمعة أن يخفي عمله لله ثم يحدث به الناس”.
قال الدكتور عمر الأشقر: “وعلى ذلك فالرياء لا يدخل في العبادات القلبية كالخوف والرجاء بخلاف التسميع؛ لأن العبد قد يحدث عما يكنه قلبه يريد بذلك ثناء الناس.
يقول العز بن عبد السلام: أعمال القلوب مصونة من الرياء، إذ لا رياء إلا بأفعال ظاهرة تُرى أو تُسمع. والتسميع عام لأعمال القلوب والجوارح وقد عدَّ الصوم من الأعمال التي لا تظهر إلا بالتسميع.
وقسم التسميع إلى قسمين:
الأول: تسميع الصادقين، وهو أن يعمل الطاعة خالصة له، ثم يظهرها. ويسمّع الناس بها، ليعظموه، ويوقره، وينفعوه، ولا يؤذوه.
قال: وهذا محرم. وقد جاء الحديث: (من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به) وهذا تسميع الصادقين.
الثاني: تسميع الكاذبين وهو أن يقول: صليت ولم يصل، وزكيت ولم يزك. وصمت ولم يصم، وحججت ولم يحج، وغزوت ولم يغز. فهذا أشد ذنبًا من الأول. لأنه زاد على إثم التسميع إثم الكذب. فأتى بذلك معصيتين قبيحتين. وجاء في الحديث الصحيح: “المتسمَّع بما لم يعط كلابس ثوبي زور”.
يقول العز بن عبد السلام في ذلك: لو راءى بعبادات، ثم سمع موهمًا لإخلاصها، فإنه يأثم بالتسميع والرياء جميعًا، وإثم هذا أشد من الكاذب الذي لم يفعل ما سمع به، لأن هذا أثم بريائه وتسميعه وكذبه ثلاثة آثام”.
اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحًة، واجعلها لوجهك خالصًة، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئًا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.