يفتخر بنو علمان بأن مغربنا الحبيب يسير بخطى حثيثة نحو علمنة القيم والمفاهيم ولبرلة (من الليبرالية، أي الحرية المطلقة التي تتجاوز سلطتها قوة الأغلبية الديمقراطية) ممارسات وسلوكيات أفراده، وأن قيمهم في تطور مستمر..
تنظر في الشارع، في العمل، في المقاهي، في أماكن الترفيه، في تجمعات البوادي الجديدة..، ترى قيما ليست قيمنا المغربية الإسلامية، ترى ممارسات صارت من قبيل العادة والفعل المتفق عليه، لكنها غريبة عنا، لم يعرفها أجدادنا، ولم يتجرأ آباؤنا على ممارستها، إلا فصيلا من ممسوخي الهوية الذين احتضنهم ونشأهم الاحتلال وأشبعهم قيمه الغربية المادية، وفصيلا ممن سافر إلى أرضه فشرب قيمه من ينابيع مؤسساته التعليمية، حيث يجحد الدين، ويقدس العقل، وتحترم النظريات المادية ولو كانت إلحادية، وهؤلاء هم من خلف العدو في تتميم مشروعه الرامي لخلق التبعية الشاملة له..
لكن ما السبب وراء تمكن هذه الشرذمة من نشر قيمها؟
إنه الإكراه العلماني للمجتمع المغربي المسلم!!
فبعد تفلت خطام سير الناس وفق هدي الكتاب والسنة، واستغنائهم عن اتباع علماء الأمة، دبت إليهم أسباب الفشل والوهن، وعمت الذنوب والمعاصي، وصار حب الدنيا وكراهية الموت السمة الغالبة على المجتمعات الإسلامية، بعد أن خمدت دعوات الدفاع عن المقدسات، ومواجهة العدو الغاصب، وإن كان لا يزال -والحمد لله- في الأمة بقية باقية، لكن كتب الله أنه إذا كثر الخبث هلك الناس.
وقد سألت أم المؤمنين النبي صلى الله عليه وسلم: “أنهلك وفينا الصالحون”، قال: “نعم، إذا كثر الخبث”، خبث الذنوب والمعاصي، والخلود إلى الأرض، والركون إلى الدنيا، والانبهار بعلوم الغرب، في مقابل هجر الكتاب والسنة، وهجر العمل بهما، وكثرة التفرق والاختلاف الذي أصاب أمتنا بالوهن، وترك التنقيب في مجالات العلوم المختلفة والاكتفاء بدور المستهلك والعالة على غيره.
في ظل هذه الظروف المتردية، والواقع الغثائي، تداعت على بلدنا دول النهضة الأوربية العلمانية التي كانت وليدة الثورة الفرنسية، المتشبعة بأفكار فلاسفة عصر النهضة والأنوار، وبسبب الضعف السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كان يعيشه المغرب، بدأ رعايا هذه الدول، وأجهزتهم الدبلوماسية تضغط على سلطة البلاد، سعيا منها إلى تغيير خصوصية أقرب جار لها مخالف في العقيدة.
بدء بإلزامه أن يكون أكثر انفتاحا وتحررا في قضية حرية التدين؛ وهو ما تم التنصيص عليه كمطلب في مؤتمر مدريد الذي خصص لقضية الحماية القنصلية؛ والتي على إثرها أسست محاكم أجنبية لا يلزم رعاياها بالأحكام الشرعية في المغرب(1)، ثم بدعوات متكررة من هذه الدول لإلغاء بعض الأحكام الشرعية الإسلامية كمنع الاسترقاق واعتبار اليهود مواطنين مغاربة لهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما على المسلمين من واجبات(2)، وضرب النساء في الحدود(3) والسماح ببيع الخمور للأجانب(4)..
وتزايد ضعف المغرب أكثر بعد سقوطه في براثن الحماية الفرنسية سنة 1912م، حيث بدأ حينها المحتل الفرنسي مسلسل تغيير الشريعة الإسلامية، وعلمنة الحياة العامة عبر تبني الطرح الفرانكفوني، إلا أن روح مقاومة المحتل؛ وتعلق المغاربة بدينهم وهويتهم حال دون تغلغل مظاهر العلمانية زمن الاحتلال.
لكن بعد خروج المحتل وترسيم قوانينه (باستثناء أحكام الأحوال الشخصية)، وتنشئة أجيال جديدة بمفاهيم غربية، وفرض العلمانية قسرا في النظم التربوية والاقتصادية والاجتماعية؛ ظهرت العلمانية في المغرب بقوة خصوصا لدى النافذين في السلطة وأصحاب القرار، الذين عملوا على ترسيمها -دون ذكر اسمها- وإقناع عموم الشعب بضرورة تبني النظام الكوني الذي خلصت إليه البشرية بعد تجربة طويلة كما يزعمون؛ إلا أن مجهوداتهم الجبارة كانت دائما تصطدم بالمواقف الثابتة لعلماء المغرب الفاعلين والمخلصين من أبنائه.
لكن بعد الانفتاح الإعلامي الكبير الذي شهده العالم، وتسلط العلمانيين على هذا القطاع الخصب لتمرير الأفكار والقيم وتطبيع السلوك؛ وتراجع دور العلماء عن القيام بواجبهم، بدأت مظاهر العلمانية تنتشر في حياتنا العامة على مستوى العقائد والأفكار، والسلوكيات واللباس (انتشار العري والسفور).
وتعددت البرامج والسياسات التتفيهية -الترفيهية- التي تستهدف الشباب؛ وكثرت المهرجانات الموسيقية، وتعاطي الخمور خصوصا بعد تقريبها من المواطنين بعد الترخيص للمراكز التجارية الكبرى في الأحياء ببيعها، وارتفع عدد لاعبي وهواة القمار بسبب تزايد مراكز لعب القمار في المدن والمراكز السياحية (مازاغان بالجديدة نموذجا).. إضافة إلى الانفتاح السياحي غير المنضبط الذي خلق مشاكل متعددة وخطيرة على رأسها توسع رقعة الدعارة والسياحة الجنسية.
هذه هي مظاهر الحياة العامة في مجتمعنا اليوم، فالعلمانيون قطعوا أشواطا كبيرة في (الإكراه على علمنة المجتمع المغربي وقيمه الإسلامية)؛ لكن هذا الشعب العظيم يختزن في دمائه جِينَات الفاتحين والمجاهدين؛ ولئن كان العدو قد أصابه في مقتل فإن قلبه لا زال ينبض حبا للشريعة وأهلها والمتمسكين بها؛ وهو ما يستحث كل العاملين في مجال الدعوة إلى الله والإصلاح أن يركزوا جهودهم على الفرد؛ وإصلاح عقيدته وسلوكه وانتمائه.
فهذه بداية الطريق؛ وبه ساد سلفنا؛ ولن نُنصر إن تنكبنا الطريق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر (الوثائق الملكية) خصوصا الجزء الثامن.
(2) (الحركات الاستقلالية في المغرب العربي) لعلال الفاسي، ص:100.
(3) (المغرب في الأرشيف البريطاني..) خالد بن الصغير، ص:520 وما بعدها.
(4) المصدر السابق، ص:207 وما بعدها، وانظر (الوثائق الملكية).