يقف المرء مشدوها أمام ما خطه الأديب الألمعي، مصطفى لطفي المنفلوطي، في أدبه الراقي من بديع الإشارة، وصدق العبارة، وبساطة المعنى، ونبل المرمى، وسمو المغزى، كتابة تعالج الواقع، بلا تفلسف أو تعقيد، ولا إسفاف أو تمييع. وجدتني وأنا أطالع نظراته وعبراته، أحس كأنه يكتب عن واقعنا، يرمقه بنظرات الحسرة، ويذرف عليه من عينيه العبرة تلو العبرة. فاسترقت من بديع ما كتب هذه النظرات.
النظرة الأولى
المنفلوطي يكتب عن جريمة مقبرة سيدي عبد الله ببوقنادل
كتب الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي (توفي 1924م) مقالا بعنوان “مدرسة الغرام” وهو ضمن كتابه النظرات الجزء الثالث، يحكي فيه عن انحطاط الحضارة الغربية، ذكر فيه من صور هذا الانحطاط، ما إن لو قام من قبره لما فرق بين ما أوصلنا إليه العلمانيون من انحطاط وتردي في القرن الواحد والعشرين، وبين ما كانت تعيشه أوربا منذ قرن من الزمن، أي منذ كتب المنفلوطي رحمه الله ما كتب، الغريب أن الأديب رحمه الله كتب عن جريمة مقبرة سيدي عبد الله، كأنه بين ظهرانينا.
قال الأديب واصفا ما آلت إليه أخلاق الأوربيين آنذاك:
“قرأت حوادث عشاق الموتى الذين يتسللون تحت جنح الظلام إلى المقابر فينبشونها عن رفات الفتيات المقبورات، شوقا إلى لثمة من خد يرشح صديده، أو رشفة من ثغر يتناثر دوده، حتى إنه ليروقهم من منظر الساكنات تحت الرخام فوق ما يروقهم من منظر المقصورات في الخيام”.
وإذا كان الأديب لطفي المنفلوطي كتب عن ذلك الانحطاط، منذ قرن وحذر منه قائلا:
“أصبحت أعتقد أن مفاسد الأخلاق والمدنية الغربية شيئان متلازمان وتوأمان متلاصقان، لا افتراق لأحدهما عن صاحبه، إلا إذا افترقت نشوة الخمر عن مرارتها، فكيف أتمناها لأمة هي أعز علي من نفسي التي بين جنبي”.
فإننا لازلنا نكرر نفس الخطأ الذي حذر منه المنفلوطي رحمه الله، ولم نستفد لا من كشفه هو وغيره من المصلحين لتلك الصور المنحطة البهيمية في الحضارة الغربية، ولا من تحذيرهم منها، ولا زال العلمانيون يستدرجون هذا الشعب وينصبون له الفخاخ والحبائل، باللعب على غرائزه وشهواته، بعد أن فشلوا في الوصول إلى مرادهم عن طريق عقله وفكره، وأنى لأفراخ إبليس من أسلوب غير أسلوب المكر والغواية، حتى إذا تمكنوا من ضحيتهم وشلوا حركتها بشباكهم، صرخوا في وجهها إنا برآء منكم، تأسيا بمعلمهم وشيخهم.
ومن صور تلك البهيمية المنحطة، و الجرائم البشعة، ما قام به أحد ضحايا العلمانية والانحلال وتغييب أحكام الشرع، والتربية الإسلامية من الأسرة والمدرسة والشارع، حين عمد إلى قبر فتاة فنبشه، ثم إلى ذلك الجسد فنهشه، وأشبع شهوته البهيمية، من جثة باردة هامدة، فلله الأمر من قبل ومن بعد. حدث الأمر بمقبرة سيدي عبد الله، بجماعة بوقنادل ضواحي مدينة سلا، حيث أخبرنا مصدر مطلع، بالدرك الملكي، أن الجاني البالغ من العمر 30 سنة، يقطن بدوار ميكة، تسلل للمقبرة ونبش قبر فتاة في السابعة من عمرها، ومارس الجنس على الجثة المتخشبة المتصلبة، ثم تركها في العراء، وانصرف لحال سبيله، قبل أن يتمكن درك بوقنادل من اعتقاله، بعد مطاردة قصيرة. وكان حدث مشابه وقع منذ سنوات بمقبرة بتطوان. فليتجرع المجتمع ثمار ما غرسه العلمانيون والملاحدة، أليس فعل هؤلاء المجرمين تطبيق حرفي لتكسير الطابوهات والتمرد على القيم والأخلاق، والتمتع بالملذات بلا قيود؟ أليست جريمتهم نتيجة حتمية لغياب الدين في التعليم والتربية والإعلام، وإقصائه من الواقع والحياة؟ أليست هذه الجريمة نتيجة لسياسة تقريب الخمر من المواطنين؟ (كارفور ومرجان على سبيل المثال)، أليست نتيجة لتشجيع العهر والدعارة والمجون والمهرجانات الساقطة والأفلام الهابطة؟ أليست نتيجة لإبعاد الدين من الحياة، وتعويضه بدين خرافي فلكلوري؟ أليست هذه الجريمة نتيجة حتمية لتتبع سنن الآخرين وتقليدهم والتخلق بأخلاقهم والتحاكم إلى عاداتهم وقوانينهم؟ الجواب قطعا: بلى، بلا شك ولا ريب.
فليرقص العلمانيون فرحا و يطربوا انتشاء، فقد تم لهم ما أرادوا، وتحقق لهم ما من أجله مكروا وكادوا، أليس مرادهم تكسير الطابوهات؟ والتمتع بالملذات؟ ها قد تحققت أمانيهم على يد مجموعة من الوحوش الآدمية، ففي أقل من شهر، اهتز المغرب على جرائم، حفزتها الفورة والثورة الجنسية، التي غذتها مظاهر العري، وأفلام الخلاعة، ومهرجانات العري والفجور، وغياب تطبيق الشرع، وإقصاء دور الدعاة، وسيطرة الفكر المادي، وغياب ما يذكر بالآخرة ومراقبة الله في كل برامجنا، إنه المجتمع “الحداثي” الذي أرادوه لنا، نموذج التفسخ والانحلال، والتحرر من قيود الأخلاق، وضوابط الشرع وأحكامه.
إذا كان الأمر كذلك؟ وهو كذلك، فلا زال أمامنا من المآسي ما الله به عليم، وسيجعلنا هؤلاء العلمانيون نكرر ما عاشته أوربا في عصور ظلامها وضلالها، ويذيقوننا من نفس الكأس التي تجرعتها.