الربا في الحضارات السابقة 1/2  ذ. نبيل العسال

 تقديم:

نلقي في هذا البحث الموجز نظرة عن موبقة الربا في الحضارات السابقة للإسلام؛ وقد جاء محتواهُ في تسلسُلِه التاريخي على النحو التالي:

التعريف بالربا في الحضارات الشرقية القديمة، ثم الكلام عن الربا في الحضارة اليونانية -أي الحضارة الإغريقية- وأبرز منظِّريها: (أفلاطون وأرسطو)، ثم الكلام عن الربا في الحضارة الرومانية التالية لليونانية.

ثم الكلام عن الربا أو سعر الفائدة في الديانة اليهودية، ثم في الديانة المسيحية. ونتعرض بالبحث أيضا إلى الربا في المجتمع الجاهلي قبل الإسلام، وإلى الربا في العصور الوسطى في أوروبا قبل مجيء الإسلام وبعده.

ثم يأتي الكلام أخيرا عن سعر الفائدة بعد مجيء الإسلام في شتى الأقطار.

 

الربا في الحضارة الشرقية:

عرفت الحضارة الشرقية القديمة الفرعونية والسومرية والبابلية والآشورية نظام التعامل بالربا، بموازاة بروز الحركة التجارية؛ حيث بلغت أسعار الفائدة مستويات كبيرة جدا بنحوٍ من 33%، مما أثَّر سلبا على الاقتصاد بشكل عام، حيث اضطر بعض الحكام وأصحاب القرار إلى إصدار قوانين تحد من الارتفاع الفاحش في نسبة أسعار الفائدة، أي الربا. وقد لقي التعامل بالربا استنكار معظم الفلاسفة والعلماء؛ حيث كان يعتبرُ شكلا من أشكال الاستغلال الفاحش.

الحضارة الفرعونية:

تجاوزت الربا في الحضارة الفرعونية رأس المال، مما اضطر الملك الفرعوني “بوخريس” إلى أن يضع قانونا يقضي بعدم تجاوز الربا لرأس المال الأصلي مهما طالت مدة القرض. وقد صارت القوانين البابلية والآشورية وعلى نفس هذه الخطى. لذا قال بعض الفلاسفة كالفيلسوف المصري “سولون” مثلا، بضرورة إلغاء الربا لتحقيق سياسة اقتصادية ناجعة وناجحة في المجتمع. أما عن الحضارة البابلية فقد ورد نص في “قانون حمورابي” يقضي بإلغاء التعامل بالربا كليا.

 

الربا عند اليونان:

انقسم المجتمع اليوناني حول هذه المسألة؛ حيث وُجد من كان يشجع الربا ويناصره، بينما كانت فئة أخرى تقبح التعامل به وتُنفر منه. ونذكر على سبيل المثال: الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي ذمَّ الربا وأدانَ والمُرابين وشنَّ عليهم في كتابه “القانون”، وقال لا يحِلُّ لشخص أن يُقرض بالربا (1) وقال أيضا: وأعتبر الفائدة كسبًا غير طبيعي.  ونذكر أنَّ أفلاطون قد ذكر كل هذا الذم للربا والإدانة للربا والمرابين في معرض حديثه عن المدينة الفاضلة. وكذلك فعل تلميذه: أرسطو، حيث نهج نفس النهج، فيقول بأن النقود غير منتجة في حد ذاتها وهي مجرد وسيط للتبادل. وإذا استعملت النقود للحصول على اقتراض وتضمنت زيادة معينة، أي: الربا، فإن النقود حينها تخرج عن وظيفتها الأساسية كوسيط للتبادل ولا حاجة لهذه الزيادة.

ولقد تعرض للموضوع في حديثه عن الفن اكتساب الثروات، فهو يرى أن الربا أحقر أنواع الكسب وأخسَها، ونذكر هنا أنه هو صاحب المقولة المشهورة: ” النقد لا يلد النقد والنقد عقيم”، في حين يذهب معاصرو كل من أرسطو وديموستين إلى العكس؛ فهم لا يرون الربا مذموما. وبذلك يتضح أن التعامل بالربا قديم في الزمن وفي التعامل البشري، ولكنه كان موضع خلاف بين المفكرين والفلاسفة وذوي المال والجاه.

 

الربا عند الرومان:

أما عن الرومانيين الذين تأثروا كثيرا بالحضارة اليونانية فقد حرموا التعامل بالربا في الإمبراطورية الرومانية في عصرها الأول، لكن وبالتدريج بعد توسع الإمبراطورية، ونفوذ طبقة النبلاء، سنَّت هذه الأخيرة قوانين لحماية المدنيين المستغلين من طبقة النبلاء أبشع استغلال إلى حد الاستعباد. ثم تطور التعامل بين طبقات المجتمع الى شيوع الربا بينهم في روما وفي باقي مدن الإمبراطورية الرومانية.

والجدير بالذكر، أن القرض الربوي لليهود قد ظهر في الإمبراطورية الرومانية التي كان يعيش بها 6 ملايين يهودي، حيث صاروا هم “الحرفيون والتجار والمقرضون والسماسرة”. وفي عام 66 قبل الميلاد تعرض اليهود للإبادة على يد الرومان، حيث استولى “نيرون” على حصن “ماسادا” الذي شهد انتحارًا جماعيا لليهود.

 

الربا عند اليهود:

أما عن بيان الربا في الديانة اليهودية فقد قال الله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً، وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما [سورة النساء:160] وهذا دليل واضح على أن الربا كان محرما في الديانة اليهودية؛ وهو منصوص عليه في كتبهم كذلك؛ لكن تعرضت التوراة كما نعلم لتحريفات لنصوصها.

ومن بين التحريفات التي طالتها: اعتقادهم كون  الربا محرما بين اليهود فيما بينهم أخذا وعطاءً ، وأنه ليس بحرام بين يهودي وآخر غير يهودي، ذلك  لأنهم يرون أنفسهم الشعب المختار وأن باقي الشعوب والأعراق هم كالبهائم لا حرمة لهم، لذلك لا يحرمون الربا بينهم وبين الشعوب والأعراق الأخرى، لذا  قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير [سورة المائدة:18] وسيأتي فيما بعد أن اليهود الأوروبيين كان لهم  دور مهم للغاية في شرعنة التعاون بالربا في أوروبا.

ونشير إلى أن كلمة الربا يقابلها في العبرية “نيشيخ”، وهي تعني قضمة أو قطعة.

 

الربا عند النصارى:

أما عن الربا في الديانة النصرانية، فقد حرمت الربا سواء ما بين النصارى فيما بينهم أو بين النصارى وغيرهم؛ خلافا لليهود. فهذا التحريم للربا أصبح فعالا في عهد “تشارلمان” في القرن التاسع، حيث كانوا يعتبرون أن الفقير أو المسكين يجب أن يقرض المال بدون فائدة، أي: ما نُسميه في شريعتنا القرض الحسن. وهذا التحريم -أي تحريم الربا في القرن التاسع- الذي حرم على الشعب صار مُطبقا على أنه المذهب الوحيد في المجتمعات الأوروبية طوال القرون الوسطى (3).

وبهذا يتبين بأن كل الديانات السماوية كانت تحرم الربا.

يتبع..

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مجلة المسلم المعاصر، العدد: 23، سنة 1400 (ص:100).

(2) كتاب شرائع السماوية تحرم الربا في الإقراض والاقتراض في العمليات التجارية والمصرفية، للدكتور القاضي برهون الصفحة 57.

(3) الدراسات الإسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية، محمد عبد الله دواز صفحة 151 وما بعدها.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *