هيمنة الوارد بين الدعوى والحقيقة والأثر عبد المغيث موحد

..ولقد كان من تمظهرات هذا الفسخ العقلاني، أن بدا للأعيان و تمثل لذوي الألباب، أهل الغيرة على مصير الأمة الشاهدة، المكانة المتعاظمة لهذه الهيمنة الاغترابية، التي بسطت نفوذها على كل محبور ومسبور، وثابت ومتغير، وملفوظ ومرئي، بل تعدته إلى إعادة صياغة أساليب سياستها الانتدابية، فعمدت إلى قراءة جديدة في الأدوار القديمة لحاملي ألويتها السقيمة، الساجدين لغرانيق فكرها الدخيل، الذين كانت لهم مواجهة سابقة مع التراث والهوية من خارج قلعتهما الطوباوية.

لكن من خلال المقتضيات الجديدة لهذه المراجعة، واعتمادا على ما تحصلت عليه من مراكز إستراتيجية، وما حققته من مكاسب مدخونة، فإن عين المصلحة ترى من النجاعة، أن يكون أسلوب مواجهة التراث الشريف، مبثوثا بين صفوف أهله، يعمل عمله الفتاك بين حشاياه، فصار الذي يدير مقود الثورة على النص وأثره، ويحركه جارحته تمردا على المقدس، ويكد من أجل تطويع الشريعة الغراء للوافد من الأفكار والمفاهيم المهجنة، وإعادة قولبة الإسلام في القوالب الغربية القميئة، والتي صارت المعيار الأوحد الذي نحكم من خلاله على وسطية الإسلام أو تطرفه، واعتدال الفقيه أو تشدده، هو الفقيه عينه الذي تخرج من عباءة الهيكلة الدينية القشيبة، التي تلقى من ضرعها المبادئ الأساسية للموالاة والوسطية والسلام، والعفو والتسامح والتقريب، وحفظ الدماء المعادية المحاربة في الثغور الساخنة، وتعطيل آلة الدفع عن الأعراض المغتصبة، والجغرافيا المغصوبة.
وتناسلت من المضغة المصابة لهذا الصنف من الفقهاء الحداثيين، الفتاوي التي خندقت سنة حف الشارب، وإعفاء اللحى، في باب الدلالة الرمزية على العنف والتشدد، وصار الحجاب المرحب به في حضيرة الوسطية الجديدة، هو السندس الأحمر الشفاف الوصاف الكشاف، وما دونه فأسر لجسد المرأة، وحجز على حقها الفطري، أما النقاب فسلطت عليه ظلمة ظلماء، حتى صار في غربة غريبة، وتعصبت هذه العصبة إلى كل مرجوح من آراء المدارس الفقهية الكبرى، حتى صار لمالك أتباع، وللشافعي أشياع، ولأبي حنيفة عقلاء، ولأحمد أمراء، بينما لا يزال اليهود يرددون تقربا إلى هيكلهم المزعوم، واحتفاء بنصرهم الموهوم: “محمد مات مات، محمد خلف بنات”.
وحقيق بهم وهم الأعداء حقا وصدقا، أن يرددوا من الشعارات ما يحلو ويطيب به مقامهم الخبيث، مقام الأولى بالنظر إلى ما آلت إليه الأمور بيننا، وقد صار المسلم خصما لأخيه يتربص به الدوائر، ويبني أمام استعطافه للخبز والقوت والفرار من الموت القلاع المحصنة، ذات الأسوار الفولاذية، ليمارس عليه الوأد، والبغي، والقطع، وليؤشر على التجاسر المقيت، بتوقيع أهل العمائم الرسمية، ومجمع البحوث الإسلامية، على فتوى لا شرعية مفادها: بناء مصر للحائط الفولاذي حلال شرعا، بينما يقتضي منطق المناطقة في حالة تجريد فكرة البناء، وتحريرها من قفص القومية وضريحها المقدس، عند المنتسبين إلى أهرامات فرعون، خصم موسى عليه السلام، يقتضي هذا المنطق أن يجيب المجنون، الذي رفع عنه قلم التكليف: بحرمة وبشاعة بناء هذه المقبرة الجماعية، للمحاصرين من البر والبحر والجو، ولكنه قانون الإخلاد، الذي يليه ولابد الإتباع الشيطاني، الذي يصير معه المتعالم كاللاهث، الذي إن تحمل عليه يلهث، وإن تتركه يلهث.
..وحق لنا أن نشيع مبادئنا إلى مثواها البرزخي، وأن نردد بعد التأبين، ما أمر به نبينا، أهل محلة سيدنا جعفر بقوله صلى الله وعليه وسلم: “اصنعوا لآل جعفر طعاما”.
فكيف بنا وبديننا المحفوظ، إذا قارعنا بالشبهات الكبراء، الذين سبقت ألقابهم ونجوميتهم فتاويهم الملغومة؟ وكيف بالذين خلا لهم الجو، وفرشت لهم متارس المواجهة بالورد والريحان، وفتح أمامهم هامش من الزمن، استعملوه في تضييق ربقة التسلط حول طوق التركة المباركة، فطفحت منابرهم الورقية، والسمعية والمرئية، بسلالة المترخصين من أهل البدع، وعباد الهوى والمصالح الهابطة، التي تتقاطع خطوطها الأزلية، مع أطماع الذين سألوا موسى عليه السلام، تذوق ما تنبته أرض مصر من بقل وفوم، وعدس وبصل، فكان لهم الإهباط، وتم لهم الاستبدال المغبون؟
في الوقت الذي تفرغ فيه الذين خلا لهم الجو، وطاب لهم المقام، وزادهم استقواءً ما عرفته الجغرافيا الإسلامية من تفجيرات غادرة، ..تفرغ هؤلاء الفارغون، لنبز المنتسبين إلى المحجة البيضاء، بالرجعية والظلامية، وملاسنتهم بأبشع الأوصاف، وأقبح النعوت، فأهل الإسلام في ثقافة الآخر، ومن تشبع بنفحات من مساحيقها المستوردة، هي ثقافة الموت، والقبر والبرزخ، وما يلزم منها، وما يتفرع عنها، من يأس وحزن وقنوط، ورفع عقيرة التسخط ضد كل جميل قشيب، بينما وبالمقابل، عمل الرسام التشكيلي الحداثي على إخراج اللوحة السريالية للوظائف الجسام، التي يؤثت رواقها المستعار، رعيل من بني علمان، صناع الحياة الجدد، الذين يديرون ملاجئ الأيتام، ودور العجزة، وأديرة الأمهات العازبات، ويقيمون بالجهد والمشقة، للشباب الضائع الهائم بين دروب الحياة العصية، المهرجانات الكبرى، التي يستقطبون لها الوجوه المنمقة، لذوات الأرداف، المائلات المميلات، صويحبات الغاسق الواقب، بعسكر الشرور، وجند الفجور، ثم يغدقون عليهن من المال العام، الذي صار مغنما لا تنضب دراهمه، حتى ولو أخد منه بسخاء لا نظير له أهل المغنى، ومهرطقو المسارح وأصحاب الأفلام المتسفلة في النقيصة، والجرائد، والمجلات الراعنة.
أفلام ومخطوطات هابطة، باتت مدرسة لتعليم أبنائنا وبناتنا الكلام البذيء المتفحش، وصارت نافذة تطل منها الأجيال الجائعة على مستنقع الشذوذ النتن، والمثلية المتوحشة، مستنقع لا يمكن أن تحجب كينونته، ولا أن تحد من ريحه السموم، الصيحات المتباعدةِ الظرفين (الزمان والمكان)، للمتفلتين من عقال الوسطية الرسمية للدين، الذي يرضى عنه وبه عنا، تقرير زاوية راند الأمريكية، التي وضعت شروط بيتها الضرار، للتمييز بين المعتدل والمتطرف، وبين الوسطية الحداثية والغلو السلفي، ذو النزعة التمردية، والاحترازية من كل جديد يحمله إلى أرضنا وثخومنا، الساعي الأبيض الصنديد، الذي يروم هدم القواعد الرصينة بمعاول محلية الصنع، بخسة الثمن، قليلة الكلفة، بأسها بينها شديد، لكن سيفها على عدوها متودد وديع، وكأنه من ورق لا من حديد.
فاللهم اغفر لبني الجلدة، فإنهم لا يفقهون، ولا يعقلون، وفي لجة الريب يترددون، وفي ظلمات موج التغريب هم يعمهون، فاللهم سلم سلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *