لم تلامس شمالهم سطح القمر ولا ولجوا بيُمناهم المساجد ولكنّهم قوم… محمد بوقنطار

 

 

أُقلِّب في خردة خرص التنويريين الجدد، وأبحث بين متلاشيات الأفكار في سوق عكاظهم التواصلي، فأخرج المرة تلو الأخرى متأبطا ذلك الشريط المشروخ المَلُوك المستهلك حد السرف والتطرف، وأعني به شريط الإيغال في ترسيخ مركزية الدنيا، والانتصار للفكر المادي الذي تفوّق وتميّز رصيده في سيرة الرجل الأبيض، في مقابل الإلغاء الكامل للغيبيات من الإلهيات والنبوّات وسلخها عن قداسة مادتها وأصالة حركتها، فإنها في ثقافة القوم جاءت مشبعة ومجبولة على النُفرة من كل ما تستروحه الحياة المادية في ثوبها المعاصر القشيب، وكذلك كان العاضون بالنواجذ على عروتها الوثقى عندهم وفي وجدان أصحاب ذلك الشريط المشروخ من معشر المتديِّنين، أنّهم مجرد خليط طيني لزب يجافي الحياة الدنيا ويُعادي أهلها من النافعين الصالحين الأنقياء الأثرياء، كل هذا واقع تحت طائلة التصنيف ذي الأدوات والمعايير المادية الصِرفة.

إن النافخين في كير الاتهام والموقعين على صكّه لَيُوحون لأوليائهم: أَنْ تحلّلوا وفِرُّوا من سلطان الدين وسطوة الحلال والحرام ومن ميتافيزيقيا الغيب فرار الصحيح السليم من المجروب المجذوم، ثم يقدمون بين يدي هذا النفخ المحموم سيلا وكَيْلا من المقارنات التي تلبس علماء الدنيا لباس النفع والصلاح والوجود الذي تحتاج إلى ركزه وجهده وعمله البشرية جمعاء، ثم ما يفتؤوا نابزين علماء الشرع وفقهاء الدين بما طاب لهم من الألقاب التي تغمس وتغمر نواصيهم وعقولهم في نجاسة الحيض والنفاس، ومعارك الدخول باليمين إلى المسجد، ومناوشات تقديم الشمال عند دخول الخلاء وهلم جرا من معطوفات الإزراء التي بات يشم ريحها المزكوم ويسمع طنين جعجعتها الصم البكم.

إنّنا ونحن خارجون من زحمة هذه السوق، متحاشون ركامها الغُثائي، لنتساءل بل لنسأل القوم في تحد طافح أن يأتوا بآية من كتاب الله أو سنة من هدي سيّد الخلق حجّرت على عقل، أو كبّلت يد إبداع حقيقي، أو كذّبت ناصية اختراع نافع مهم، أو زاحمت حد الإقصاء جهود عالم في شتى دروب النفع وميادين المصلحة العامة، كما فعلت الكنيسة وسدنتها من ذي قبل.

فإن لم يأتوا ولن يأتوا بهذا، فليعلموا في إنصاف وتجرد أن قواعد الإسلام جاءت تُحيل المسائل دِقّها وجِلّها على أهل الخبرة في مقام التخصص وتوزيع الأدوار وإناطة المسؤوليات، إذ تأتي الخيارات كما الفتوى ملفوفة في طابعها التخصصي والخصوصي، قد اصطبغ جهدها المستفرغ بما يواطئ المعقول ويأذن به وله المنقول فلا تعارض البتة، كما جاءت حاضة في صيغ الأمر على واجب التبحر في علوم الدين والدنيا، محافظة على توليفة متشاكلة الأطراف فلا يكون بين طرفيها اعتساف أو تعارض أو تناقض.

إنّني أنا المتمسك بفعل الصيام من ركن رمضان حد الإنابة والإخبات لأنحني ولأقدِّم وأستجيب لفتوى الطبيب المتخصص والآمر هاهنا بواجب الإفطار في نهار رمضان درءا لمهلكة واقعة وجلبا لمنفعة راجحة، في مقابل تمنعي وإبائي ورفضي الاستجابة وقبول فتوى الشيخ العالم بواجب الصيام حالة المرض هذه، إعمالا للقاعدة التي تنص ذوقا على أن من تكلّم في غير فنّه أتى بالعجائب وارتكب الغرائب، وتلك مصيبتنا وبلية أهل زماننا، بينما هذه سيرة الإسلام أينما أناخ مطايا أحكامه، رحمة وهدى ونور قد حباه وجمع له مولاه ومولي نعمته التامة بين صفات الإقناع والإمتاع وبين طابعي الحكمة والمناسبة.

كتب أحدهم في معهود لغة أو لهجة -على أدق تعبير- قد اختلط فيها بل غرق في لجة عاميتها السوداء الركيكة نزر من بياض الفصيح، ناصحا موجها ومنبِّها رواد صفحته “الفيسبوكية” إلى أن العلماء على الحق والصدق هم من استفرغوا جهدهم واستنزفوا قواهم الذهنية وصرفوا لحظات أعمارهم في سبيل إسعاد البشرية وإنقاذها وقد راكموا في مقام الإبداع والمعرفة والاختراع ما أشبعوا به الحاجات الإنسانية في الطب والصناعة والطيران والهندسة وهذا حق أردفه باطلا وبهتانا، ثم استرسل صاحبنا في صيغة ملؤها الإزراء والتعريض والتدنية والتنقيص من مقام علماء الشرع وفقهاء الدين، واصفا إيّاهم بعلماء الحيض والنفاس وأن كبير انشغالاتهم في تقديم اليمنى وتأخير القدم اليسرى، وهو من هو؟ وهم من هم؟ ليس لهم في العير ولا في النفير، فلا هم قدّموا يسراهم عند عتبة التخلي، ولا وطئت يمناهم باب المسجد، كما لم ينفذوا من أقطار السماوات والأرض ولا مشوا في مناكبها ينشرون العلم ويُذْرُون حبوب اللقاح وأمصال الحياة ويبثونهما في جسد الصناعة، وإنّما يشهد الفم كما القلم على أنهم جميعا وأشتاتا من أولئك المترفين الذين ما فتئوا يعتقدون أن سبيل النهوض هو في الاستزادة من حرية الزندقة وإتاحة المزيد من جرعات الجراءة على الله ورسوله والدين والتكالب في التأليب على المسلمين ليل نهار، فلا أعرف لهذه الكسور منشورا لم يتعرّوا فيه ولم يَتَنَقَّصوا من خلاله أو يسفهوا حكما شرعيا، وذلك مبلغهم من الجهل كما الجهد وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب سوف ينقلبون.

فلطالما عرفنا من هؤلاء “المتثيقفين” ووقفنا على فرط حساسيتهم وشدة تبرمهم وتضايقهم متى ما ذُكِر لهم أو سمعوا قال الله وقال رسوله، وإنّما الألم والحسرة وعٌصرة القلب قد اشتدت وطأتها من جهة ما نُسجله من تغافل وتقصير ولامبالاة من السلطات المختصة وإخلال أسيف منها بواجب الأخذ على ذمة هؤلاء السفهاء لردعهم ومنعهم من العبث بأحكام الدين وتحريف الكلم عن مواضعه، سيما وأن خصومة هؤلاء، بل عداوتهم وبغضهم وإرادتهم إغاظة المتديّنين هي أهواء لا تزال تتجارى بهم كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مَفْصِل إلا دخله، وسيما وأن جمهورا من المتعاطين مع هذا النوع من الخطاب الغاشم الآثم قد انتقلوا من موقف “استماع الفضول” إلى درك “إنصات التأثر ثم الانخراط”.

إن مشكلة الإسلام ومواطن الخلاف مع هؤلاء إنّما محلّها مقاصدية ترتيب الأولويات ليس إلا، إذ لا نستطيع أن ننكر أن هذا الدين العظيم من خلال مصادره قد تواتر منها ما يفيد تقديم الحياة الأخروية عن عن الحياة الدنيوية،  ومن تتبع غرز النصوص حصل له الإشباع والإقناع والإمتاع في هذا المقام والخصوص، وهو تقديم لا يعدم كما لا ينسف ولا يُجافي ضرورة الإعداد والاستعداد الحافل الحفي بالحياة الطيبة، والموصل إلى مقام الردع ومنزلة “الأعلون” التي يتبدّد معها الوهن والحزن متى ما توفر شرطها من عروة الإيمان، فلا رهبانية في الإسلام ولا انسحاب لأهله من دروب الحياة وحركة اقتحام عقبتها، ومن كان منصفا في بحثه عن الحق وقف على ما يرد بصره من سيرة علماء الأمة قديما وحديثا، ولكن الباحثين هاهنا يلبسون أقمصة لا يدرون باطنها من ظاهرها ولا خلفها من أمامها

نعم لقد جعل الإسلام الدنيا وسيلة للآخرة، فلم يجعلها غاية في ذاتها، بل رأى أن اتخاذها غاية والإغراق في ملاذها ومتاعها في تجرد وانسلاخ من الالتزام الشرعي والأخلاقي هو ضرب من العبث يضارع فيه الإنسان المادي ويُحاكي حياة الأنعام، بل يكون بها وفي غمرتها أضل منها سبيلا، سيما وقد جاء في نصوص الوحي ما يفيد بالقطع أن التنعم الدنيوي هو من صميم الابتلاء لا الامتياز الاصطفائي والتكريم الرباني، وقد دلّت القرائن العقلية في مقام الترجيح على واجب تقديم المصلحة المؤبدة على المصلحة المؤقتة المستهلكة الزائلة، وقد عُلم أن هذا التأبيد جاء مُعرفا كاشفا عن ماهيته بوعد صادق بفوز عظيم قد أجمل وصفه الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام فقال: “فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”، في مقابل ما أعدّه الله لأعدائه وأعداء رسله وأنبيائه وخصوم رسالاته وكتبه من وعيد مهين وعذاب أليم يعف القلم خوفا أن يسترسل في فواصل وتفاصيل أصنافه وأوصافه وأدواته نسأل الله العفو والمعافاة.

إن مما يحز في النفس ويدعو للأسف أن من يَلِغون في جِرم هذا النوع من النجاسات الفكرية، ويرتكبون جُرم التبرئ والتعرِّي من الطهارة والتبرز في مائها المستبحر، لم يصلحوا ولم يشاركوا يوما من أيام دهرهم في إصلاح خلل صناعي أو رأب صدع سياسي أو رتق شرخ صحي أو اقتصادي أو اجتماعي، كما لم يدعوا الإسلام وشريعته وأهلها في حالهم، فهم جميعا أو أشتاتا أهل أهواء، زادهم ورصيدهم الأماني لا الحقائق واليقينيات.

وإنّما كان الواجب المُلقى على عاتق أهل العلم والفقه والمعارف الحقة التي تستوعب الأخروي والدنيوي في تشاكل وتجانس وتكامل يدرء التعارض، أن يضعوا هؤلاء وكلامهم على مشرحة الفضح والإيضاح، حتى يتسنى للناس الخلاص والتخلص من تدليساتهم وسطوة تباريح بكائهم المنغوم اللحن وذلك الرباط وذلك الرباط…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *