تحقيق العبودية لله شرط التمكين ودرب الاستخلاف في الأرض أم معاذ حمدوشي الزبيري

إن وحدانية الله تعالى من العقائد التي لا جدال فيها بين المسلمين، فربنا جل وعلا واحد؛ شهد لوحدانيته كتابه المقروء، وأعني به القرآن، وكتابه المفتوح وأعني به الكون. 

فالكون يؤكد هذا الإثبات من خلال نظامه وانسجامه وتناسقه.. فالعالم كله يسير وفق تدبير محكم {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، لا القمر يسقط على الأرض، ولا الأرض تتصادم مع الشمس، لا دائرة الهواء تنخرط في دائرة الماء، ولا الماء يتمرد على التراب، ولا الحر يقطع صلته بالنار..
هذا الترتيب يشهد أن الخالق واحد، وأن جميع سلطات التدبير والأمر والنهي تندرج في سلك ونظام واحد، لا تخرج عن حكمِ واحد أحد، لا منازع له؛ ولا ند له؛ ولا كفء له؛ ولا شريك له؛ شهد لقدرته العظيمة كل شيء من هذا العالم الفسيح.
ويشهد لهذا الإثبات أيضا من كتاب الله المقروء قوله جل وعلا: “أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ لَو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا” الأنبياء:21-22، وقوله عز وجل: “قُلْ هُو اللهُ أَحَد” الإخلاص:1، وقوله جل وعلا: “وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ” المائدة:73، وقوله عز وجل: “شَهِدَ الله أنهُ لاَ إِلهَ إلا هُو” آل عمران:18، وقوله جل وعلا: “هُو اللهُ الذِيِ لاَ إِلهَ إلاَّ هُو” الحشر:22.
نستخلص إذا أن الله عز وجل شهد لنفسه بالوحدانية في غير موضع وفي أكثر من سياق، وعندما نتفكر في ملكوته، نجد أن في كل صنعة آية تدل على وحدانيته؛ ونجد دليلا على فردانيته وصمديته.
وقد دعا خالق الكون عالم الغيب والشهادة جميع خلقه إلى لزوم عتبة العبودية والانقياد لأمره والتوكل والاعتماد عليه، فقال سبحانه: {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} هود:123. وقال سبحانه: “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا” النساء:36، وقال جل في علاه: “وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” الإسراء:23.
ومن عظيم حكمته سبحانه أنه جعل تحقيق العبودية شرط التمكين ودرب الاستخلاف في الأرض ومناط العزة؛ قال تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” النور:55.
وقد سجل لنا التاريخ ولأسلافنا مجدا تليدا وسبقا فريدا، كان منشؤهما تحقيق العبودية لله وحده وعدم الركون إلى أحد سواه، فما فتح المسلمون بلاد فارس والروم وغيرهما، إلا بعد دخولهم في السلم كافة وقبولهم بجميع شرائع الإسلام وأحكامه؛ فهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخرج إلى الشام ومعه أبو عبيدة بن الجراح؛ فأتوا على مخاضة؛ وعمر على ناقة له فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا؟ تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟! ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك!
فقال عمر: أوه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم!
إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله. (رواه أحمد 3/477 والحاكم 1/34 والبيهقي أيضا في الأسماء وغيرهم؛ انظر السلسلة الصحيحة:51).
وللفائدة فأول أمر ورد في كتاب الله تعالى هو الأمر بالعبودية؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة:21؛ فعلى كل راغب في استعادة مجد الأمة التليد؛ أن يلزم هذا الأمر؛ ويبدأ بنفسه ومن يعول؛ ويعمل على تحقيق العبودية لله وإخلاص العمل له وحده؛ والعمل بأحكام الكتاب؛ والتمسك بهدي السنة؛ فهذا هو السبيل الذي سلكه أفضل الخلق ومكنه بعد ذلك رب الخلق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *