الفصيحُ والمتفاصح ربيع السملالي

بعد قراءتي المتواصلة الطّويلة في كتب الأدب وغيره من الفنون، صرتُ أفرّقُ بين الفصيح والمتفاصِح حين أنظر في مقالاتهم وأكتوباتهم، بل أصبحت أشعرُ بالرَّجل الذي يزعج القارئَ بصرير قلمه، وبالمرأة التي تحاول الظُّهور بمظهر الكاتبة التي أفنت عمرها في تعلّم اللّغة وبلاغتها وفصاحتها، وكل هذا من أجل أن يظهروا جميعًا بمظهر الأدباء الذين لا يشق لهم غبار. ( وحبّ الظُّهور يقصم الظُّهور) .

ومن بين هؤلاء لا أحتفلُ إلا بمن يكتب بقلبه ولغته السهلة الميسورة الخالية من اللَّحن، وبهدوء وأسلوب أنيقين ! يركِّز على المعنى أكثرَ من المبنى، لعلَّ رسالتَه تصلُ إلى أكبر عدد معين من القرّاء ..لأنّه صاحبُ رسالة وليس طالبَ شهرة وذِكر بين الناس !

فالألفاظ ليست غايةً بل وسيلة ناقلة للفكرة، ودون المعاني والأفكار يصبحُ الكلام لا قيمة له. وقد قال أحدُ الحكماء : الكلامُ الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه .

لكن لو كانَ الكاتب ذا أسلوبٍ قويٍّ بلغة فصيحة وبيان مُشرقٍ مع معانٍ عاليةٍ فقد قاربَ الكمالَ وكان من الذين أنعم الله عليهم من فحول الأدباء والكُتّاب….

وما أقبح أن تجد الفصاحة والبلاغة والتّشادقَ والألفاظ الفخمةَ واللّغة المُستغلقة في معنى إذا فتّشته لم تجده شيئًا ذا بال..كامرأة قبيحة الخِلقة سيّئة الأخلاق تلبس من الثياب أجملها ومن القلائد أغلاها وأنفسها  !

وفي مقدّمة (تاج العروس) للمُرتضى الزَّبيدي كلمة أعجبتني يمدح فيها صاحبَ (القاموس المحيط)، يقول فيها: (أوجزَ اللّفظَ وأشبع معناه، وقصّر عبارته، وأطالَ مغزاه) .

يا الله ما أجملَها من عبارة، وما أطيبه من مدح، وما أزكاه من ثناء . إنّه أوجز اللّفظ [ وهذا بيت القصيد ومربط الفرس في مقالتنا] وأشبع معناه [ فلا قيمة للألفاظ إن لم يكن المعنى ذا قيمة ينتفع بها المُتلقّي] وقصّر عبارته [ لأنّ التطويلَ المملَّ ليس من البلاغة في شيء فهي أشبه ما تكون بثرثرة وهذيان محموم] وأطال مغزاه [ وهنا يظهر ذكاء الكاتب والأديب فلله درّه] .

قيل لأحد البُلغاء: ما حدُّ البلاغة؟ قال : التي إذا سمعها الجاهل ظنّ أنّه يقدرُ على مثلها، فإذا رامها استعصتْ عليه !

وقيلَ لأعرابي : من أبلغُ النّاس؟ قال: أسهلهم لفظًا وأحسنهم بديهة .

وقال جعفرُ بن محمد: سُمّيَ البليغُ بليغًا لأنّه يبلغُ حاجتَه بأهون سعيه .

‏إذًا : فلا يَنبغي لمن يَكتبُ الآنَ أن يتكلّفَ مذهبَ ابن المُقفّع، أو طريق الجاحظ، أو أسلوب الحريري والبديع الهمذاني، ولا ينبغي له أن يُرهقَ النّاسَ من أمرهم عُسْرًا فيفرض عليهم الرّجوعَ إلى المعاجم في كلّ سَطر . كما يقول طه حسين .

وقد قالوا: خيرُ الكلام ما لم يُحتج بعدَه إلى كلام .

وقد جاء في العِقد لابن عبد ربّه ج 2 ص 274 تحت عنوان (آفاتُ البلاغة) هذا الخبر :

(قال محمد بن منصور كاتبُ إبراهيم، وكان شاعرًا، راويا وطالبا للنّحو علاّمة، قال سمعتُ أبا داود بن جرير الإيادي، وجرى شيء من ذِكر الخُطب وتمييز الكلام، فقال: تلخيصُ المعاني رِفق، والاستعانة بالغريب عجْز، والتّشادقُ في غير أهل البادية نقص…والخروج عمّا بُني عليه الكلام إسهاب ). انتهى بتصرّف يسير

وسُئلَ جعفر بن يحيى عن أوجز كلام فقال: قول سليمان عليه السّلام في كتابه إلى ملكة سبأ : ( إنّه من سُليمان وإنّه بسم الله الرّحمن الرّحيم، ألاّ تعلُوا عليَّ واتوني مسلمين) [ النّمل: 30.31] فجمع في ثلاثة أحرف العنوانَ والكتابَ والحاجة وإظهار الدّين، وعرضَ الرّشادَ على المكتوب إليه . [ محاضراتُ الأدباء ج 1 ص 119]

ومن النّوادر أنّ أعرابيا سمع أبا المكنون النّحوي في حلْقَته وهو يقول في دُعاء الاستسقاء: اللهمّ ربّنا وإلهنا ومولانا فصَلِّ على محمّد نبيّنا، اللهمّ ومن أراد بنا سوءًا فأحِط ذلك السُّوء به كإحاطة القلائد بأعناق الولائد، ثمّ أرسخه على هَامَتِه، كرسوخ السِّجِّيل على هام أصحاب الفيل، اللهمّ اسقنا غيثًا مُغيثًا مريئًا مَريعًا مُجلجلاً مُسْحَنْفَرًا هَزِجًا سحًّا سَفوحًا طبقًا غدقًا مُثْعَنْجِرًا، نافعًا لعامّتنا، وغير ضارّ لخاصّتنا . فقال الأعرابي: يا خليفة نوح هذا الطّوفان وربّ الكعبة، دعني حتى آوي إلى جبل يعصمني من الماء . [ العقد الفريد ج 2 ص 492] .

وبما أنّ الشيء بالشيء يُذكرُ يحضرني هنا ما قاله شيخ الأدباء علي الطنطاوي -رحمه الله- عن زكي مبارك كما (ذكرياته ج 3 ص 236) : أحسبُ أنّه صاحبُ أجمل أسلوبٍ، تقرؤه بلذة، ولا تكاد تجد فيه فائدة .

قلتُ : وهذه مبالغة من الشيخ في حقّ (الدكاترة) زكي مبارك، بل أكثر كتبه مفيدة نافعة، حتّى وإن اختلفنا معه في كثير مما يذهب إليه، فإنّ الإنصاف عزيز وكلمة الحقّ واجبة . وما أظنّ هذا الكلام إلا من قَبيل: (المُعاصرة حجاب)، وكلام الأقران يُطوى ولا يُروى . وما يُدرينا فلعلّ الشيخ قد تراجع عن هذا الكلام كما تراجع عن كلامه في حقّ الشاعر السوري المشهور ( نزار قباني) .

ولعلّ الآن قد تساءلتَ أخي القارئ وعقدت ما بين حاجبيك : لماذا قلت : الدكاترة ولم تقل الدكتور ؟

الجواب وهو استطراد لا قيمة له ولكن لابدّ منه : (لأنّه أخذ أكثرَ من شهادة دكتوراه، فأطلق عليه بعضُ طُلاّبه لقبَ «الدكاترة زكي مبارك» وكان هذا اللّقبُ أثيرًا عنده محبّبًا إليه! كيف لا وهو الذي تورّمت ذاتُـهُ حتى كان لا يرى أحداً يصلُ إلى مكانته أو يدانيها! هذا الرجل كان شاعرًا وناقدًا وصحافياً لسنوات طويلة، وكانت له معارك أدبية مع رموز عصره).

وفي أخير هذه التَّدوينة نذّكر بتلك الكلمة الطيّبة التي افتتح بها الدكتور فهد الحمود كتابه ( صنعة الكاتب) وهو كتاب جيّد مفيد بالمناسبة أنصح به من يُريدُ خوضَ غمار الكتابة الأدبية.

يقول حفظه الله: فيُستشفُّ من افتتاحية كثير من مُصنّفات الأوائل قلقٌ كبير من الإقدام على الكتابة، لكونها مليئة بالأخطار، ومَنْ يركبُها فقد ركبَ الصّعبَ، فلابدّ أن يلتزمَ الحيطة، لكي يفوز بالسّلامة، ولا سلام في الكلمات، لأنّ السلاّمة في الصّمت .

ومن أجل ذلك يُقدّمُ بين يديه عُذرًا للتأليف، ويُفصح عن الباعث عليه، كسؤال من سائل، أو طلب ممن له حقّ الطّلب.ولهذا قيل : ( لايزال المرء في فُسحة من أمره ما لم يقُل شعرًا أو يؤلّف كتابًا).-

 

 

ودامت لكم المسرّات

 

ربيع السملالي

16 أبريل 20120 م في زمن كورونا

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *