من الظلمات إلى النور (15)
نعرض في هذه السلسلة قصصا مؤثرة لأناس عاشوا فترة من أعمارهم بعيدين عن ربهم، تائهين عن طريق الهدى، تتقاذفهم أمواج متلاطمة من الشهوات والشبهات، قبل أن يتسلل نور الإيمان إلى قلوبهم، ليقلب بؤسهم نعيما، وشقاءهم سعادة..
إنه نور توحيد رب العالمين، إنه قوت القلوب وغذاء الأرواح وبهجة النفوس
منذ قرابة أربعة عقود لجأ عشرات الآلاف من الأمريكيين السود من مختلف الطبقات الاجتماعية والتوجهات السياسية إلى الإسلام، باعتباره دين المساواة والعدل، وبحكم أنه دين تسود فيه العدالة الاجتماعية، ويرفض الظلم والاضطهاد والتمييز بين بني البشر على أساس الجنس أو اللون.
ولما كان هؤلاء الأمريكيون السود في رحلتهم الإيمانية التي أفضت إلى اعتناقهم الإسلام لا يبحثون عن الخلاص الروحي فحسب، بل كانوا يجاهدون في سبيل الإيمان بدين يحفظ لهم كرامتهم الإنسانية ولا يحط من قدرهم، لاسيما بعد معاناتهم الطويلة بسبب التعامل العنصري الذي يلاقونه من البيض، فلم يتحقق لهم ذلك سوى تحت مظلة الإسلام الوارفة بالعدل والمساواة.
وقد بث الإسلام فيهم الأمل وجدد فيهم الحلم بمستقبل أفضل، إذ أنهم لما تتبعوا سيرة المسلمين على امتداد القرون الماضية استوقفتهم معاني المساواة الإنسانية التي جمعت بين بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وغيرهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقفوا بذلك على عظمة تعاليم الدين الخاتم الذي يسقط كل الفوارق بين البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم، ويجعل مقياس التفاضل الوحيد بينهم هو تقوى رب العالمين.
«كريس جاكسون» واحد من هؤلاء الأمريكيين السود الذين اعتنقوا الإسلام، وهو أحد مشاهير كرة السلة في أمريكا، وكان يشعر قبل اعتناقه الإسلام بأن بني جنسه مهما نالوا من شهرة واعتراف من المجتمع الأمريكي لتألقهم في المجالات العلمية والرياضية فإنهم تنقصهم حركة منظمة تحقق مطالبهم وتضمن لهم العيش بكرامة، فكان هذا الشعور باعثا لكريس ليمضي في رحلة إيمانية بحثا عن دين يحقق له ولبني جلدته قدرا من الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
وكان جاكسون يرى ضرورة تغيير الأمريكيين السود ما بأنفسهم للارتقاء بوضعهم ومكانتهم داخل المجتمع، كما كان يرى ضرورة أن يتنادى قادتهم إلى بث الأمل فيهم، وتحريضهم على العمل، ودعوتهم إلى الالتزام بمكارم الأخلاق، والنأي بأنفسهم عن مواطن الشبهات، ليكون لهم دور فاعل في تحسين أوضاعهم الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق التعليم والعمل.
وقد بدأت رحلة جاكسون لاستكشاف الأديان بالبحث عن الجوانب الأخلاقية والمبادئ الإنسانية في تعاليمها، فاستوقفته معاني الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية في الدين الإسلامي، وشعر بأنه وجد فيه ضالته، فبدأ يدرسه ويبحث في حيثيات تشريعاته وأحكامه، فامتلأ قلبه بالإيمان وقذف الله في قلبه نور الهداية والحق، وتيقن جاكسون من كون الإسلام هو الدين الذي يبحث عنه، فأعلن إسلامه رسميا في عام 1991، وغير اسمه إلى محمود عبد الرؤوف.
ولم يكن خبر اعتناق نجم كرة السلة الأمريكي للإسلام أمرا مثيرا لوسائل الإعلام الأمريكية بقدر ما حصل معه سنوات قليلة بعد إسلامه، حيث خلّف سلوك غريب صدر منه جدلا إعلاميا كبيرا في مارس عام 1996، وذلك حينما تعرض لعقوبة الإيقاف من اتحاد كرة السلة الوطني الأمريكي، بسبب رفضه الوقوف لتحية النشيد الوطني الأمريكي والعلم الأمريكي أثناء أداء إحدى المباريات المهمة في كرة السلة.
وأخذ اصطدام محمود مع اتحاد كرة السلة الوطني منحى أبعد من كونه اصطداما أو خلافا رياضيا، فقد أكد هذا الصدام اتساع الهوة بين الإسلام والثقافة الأمريكية، مما دعا محمود عبد الرؤوف إلى الإصرار على رفض تلك الطقوس، والتي برر رفضه لها باعتبار العلم الأمريكي رمزا للاضطهاد والطغيان، لذلك رفض أن يقف تحية وإجلالا له قبل إحدى المباريات التي نظمها اتحاد كرة السلة الوطني.
وقال محمود -الذي يقدر دخله من كرة السلة بحوالي 2.6 مليون دولار سنويا-: «إن ديني أهم من أي شيء آخر، ولذلك أحرص على أن يكون ولائي لله تعالى قبل أن يكون لأي شيء آخر».
وكان محمود يخسر حوالي 32 دولارا في كل مباراة أثناء فترة إيقافه بسبب تلك الحادثة؛ ولم يكن يلقي بالا لذلك، بل بدا مصرا ومقتنعا تماما بموقفه ذاك، حيث صرح قائلا: «إن واجبي تجاه خالقي أعظم وأجل من التقاليد الوطنية».
هكذا هي جذوة الإيمان حين تشتعل في قلوب الموحدين فتنير بصائرهم، وتمنحهم العزم واليقين فيؤثرون مرضاة رب العالمين على رضا الناس أجمعين..
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(*) نقلا عن كتاب «رحلة إيمانية مع رجال ونساء أسلموا» لعبد الرحمن محمود، بتصرف واختصار.